ما عسانا أن نقول في ذكرى رحيل كاتب ياسين؟ هل نسرد قائمة أعماله ونردد أن «نجمة» هي إحدى أجمل القصائد في تاريخ الرواية، وإحدى أجمل الروايات في تاريخ الشعر؟ كل ما يمكن قولُه عن أدبه سبق أن قيل. أما ما يشار إليه نادراً، فمحاولة استرجاعه من طرف النظام وسعي بعض أصدقائه إلى جعله صنماً يطاف حوله كغيره من أصنام المثقفين.
في ذكرى وفاته العشرين، قررت البيروقراطية الثقافية تكريمه على طريقتها الخاصة. «قررت نصب تمثال له في المكان المسمى عين غرور، قرب حمام نبيلس، موطن القبيلة التي ينحدر منها والذي استوحى منه الكثير من أحداث روايته نجمة». هذا نص الخبر كما أوردته جريدة «الوطن». لم يتوقع أحد، ولا أكبر العارفين بجزائر المعجزات، أن يُنظر يوماً إلى عنصر فني في نصوص كاتب ياسين (أي الأصول المتخيلة لبعض شخوصها) كحقيقة من حقائق «علم الأنساب». ثم أليس من المضحك أن يساق صاحب «الأسلاف يزدادون ضراوة» إلى ساحة القبيلة عنوة، وهو من كان يحلم بالعالم قطعة واحدة دون فواصل أو حدود؟
عوّدتنا البيروقراطية الثقافية على اعتبار النصب التذكارية أرقى عروضها التكريمية، وعلى ابتسار أكثر الحيوات ثراءً في كلمات باهتة تلح على جنسية الراحلين وعلى ما قدموه من «خدمات جليلة للثقافة الوطنية». عوّدتنا، بحجة انتماء الجميع إلى «أرض الجزائر، بلد المليون ونصف مليون شهيد»، على أن تقدس فلاناً ونقيضه على السواء، مؤسس جمعية العلماء المسلمين، عبد الحميد بن باديس، والعلماني كاتب ياسين، مقاوم الاحتلال الروماني يوغرطة وحليف هذا الاحتلال القديس أوغسطين. عودتنا على كل شيء، فلم نعد نستغرب لا تجاهلها للأحياء ولا مبالغتها في الثناء على الأموات، لكنها أول مرة تتصرف فيها بهذه السوريالية الفذة فتنصب لأحدهم تمثالاً في «المكان المسمى عين غرور». هذا عن المحاولات الرسمية لاسترجاع كاتب ياسين. أما بعض أصدقائه فحوّلوا إلى صنم من كان يعتبر الكتابة «الثورة عارية بل الثورة ذاتها دائمة الانفجار». عملية «التصنيم» هذه بدأت وهو بعدُ حي، باعتباره أكبر أديب جزائري على مر العصور، واعتبار رموزه الفنية أحجيات تستعصي على غير المقربين ممن شربوا معه قهوة فأسرّ إليهم بالأسرار الكامنة في ثنايا «نجمة» و«الجثة المطوقة» و«الرجل ذي النعل المطاطي». وكان هو يضيق ذرعاً بهذا التمجيد كما يبين ذلك رده على صحافية فرنسية قالت له إنه «أديب عملاق»: «عملاق؟ بل قولي إني خرافة بالأحرى. كنت أمثل إلى حد الآن أحد جوانب استلاب الثقافة الجزائرية. كنت أعتبر كاتباً كبيراً لأن فرنسا قررت ذلك. الحقيقة أن اسمي معروف كاسم لاعب كرة أو ملاكم، لكن كتبي لم تقل للشعب شيئاً لأنه لم يقرأها».
أليس مضحكاً أن يساق صاحب «الأسلاف يزدادون ضراوة» إلى ساحة القبيلة عنوة؟
تحوّل كاتب ياسين كذلك إلى بضاعة رمزية، تضخم عدد «صحابته» فكلهم تلميذه أو رفيقه أو صديقه الحميم، ولولا مانع السنّ لزعم بعضهم بنوّته بل حتى أبوّته. أصبح ادعاء القرب منه وسيلة لتلميع صورة البعض في أوساط مغلقة تجتر نفسها، وأداة لإكساب الموهبة لمن لا موهبة له. تحوّل أيضاً إلى تيمة بروباغندا في سوق السياسة. سمعنا من يقسم أنه كان «ديموقراطياً صميماً» وهو لم يتكلم يوماً عن الديموقراطية، ومن يؤكد أنه كان اشتراكياً سوفياتياً رغم أنه كان أقرب إلى الفوضوية الشاردة منه إلى السوفياتية الجنائزية، ومن يزعم أنه كان ستالينياً رغم أن إعجابه الاستفزازي بـ«أب الشعوب» لم يجعله يهتدي بهدي دار التقدم الموسكوفية. نُسي أنه كاتب لا غير، وأن الكاتب، كما كان يقول، «هو داخل الفوضى فوضويُّها الأبدي».
* صحافي جزائري