لم تكن المشاهد عاديّة. دماء على الوجوه وهتافات سوقيّة، وكل ذلك حول مباراة كرة قدم. عدد الذين أحرقوا العلم الجزائري في القاهرة يفوق عدد الذين نشاهدهم يحرقون العلم الإسرائيلي. حسني مبارك الذي لم يحرّك ساكناً أثناء العدوان على لبنان وعلى غزّة، جمع مجلسه للأمن القومي وقادة القوّات المسلّحة. وكان قد أرسل علاء وجمال مبارك لعلّهما يقطفان ثمار فوز «الفراعنة». الحماسة في كلا البلدين تدفعان للتساؤل: أين كانت تلك الطاقة أثناء العدوان على لبنان ثم على غزة؟ ما حلّ بما كان يُسمّى «الأمة»؟
أسعد أبو خليل*
لا شك بأن تحوّلات جذريّة قد حلّت بالثقافة السياسيّة العربيّة على امتداد العقود الماضية. هناك سياسة مقصودة في الإعلام السعودي، ومن يتبعه، للثأر من عبد الناصر، ومن كل ما مثّلت تلك الحقبة بالنسبة للعرب. أهانهم عبد الناصر وأذلّهم، وسخر منهم (قبل 1967). كان أفراد في العائلة السعوديّة المالكة، وطيّارون سعوديّون، يلجأون إلى النظام المصري للانفصال عن سياسة فيصل. بدأ الحكم السعودي بالانتقام بعد 1967: ونعلم القليل القليل عن حقيقة الدور السعودي في تلك الحرب التي لم يستعدّ لها عبد الناصر، والتي يتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة جمّة عن الهزيمة التي أنتجتها. لكن نائب مدير الاستخبارات السعودي السابق كشف قي مقابلة مع جريدة «المصري اليوم» أن فيصل كان ينسّق مع أنور السادات، وأنه كان سيؤيّد زيارته لإسرائيل.
جزء من سياسة الانتقام من عبد الناصر هو في السخرية من كل شعارات تلك المرحلة، وكثير من الشعارات فرضها الرأي العام

رحلة القطريّة لم تتمتع بالزخم الهائل إلا على يد أنور السادات عندما بدأ قبل حرب تشرين بتصفية التركة الناصريّة
العربي على الأنظمة، لا العكس. أبواق آل سعود يسخرون اليوم من شعارات تحرير فلسطين والوحدة العربيّة والعدل الاجتماعي ومحاربة الفقر. كل ذلك استبدل. أصبحت السخرية من العنصر العربي سائدة اليوم. تسمعهم يقولون: «العرب جرب»، أو «العرب أمّة صوتيّة»، أو «كله عند العرب صابون» (والشعار الأخير ورد في عنوان مقالة في هذه الجريدة). لو أن الشعارات العنصريّة قد أطلقت ضد أي شعب آخر لهتف هؤلاء مستفظعين (ومستفظعات) العنصريّة الكامنة في تلك الشعارات التي أقل ما يُقال عنها إنها غبيّة. هل يريد هؤلاء أن يُروّجوا لمقولة دونيّة العنصر العربي؟ تحقير العنصر العربي ازداد بعد 11 أيلول عندما أطلق أمراء آل سعود العنان لأبواقهم إرضاءً للإدارة الأميركيّة وتحضيراً للرأي العام العربي من أجل استسلام مذلّ للكيان الغاصب (تحت مسميّات مختلفة، مثل «مسيرة السلام» أو «مبادرة السلام العربيّة» ـــــ وهل توماس فريدمان، مؤلّف المبادرة، عربي؟) والليبراليّة العربيّة (الوهّابيّة الهوى والتمويل) تستعير وتستعين بكتاب الاستشراق الإسرائيلي المُبتذل، «العقل العربي». والكتاب مُحتقر ومذموم في علم الاجتماع الغربي، وهو ينتمي إلى حقبة كانت فيه الأعراق مُقسّمة في تراتبيّة جامدة. أصبح ذمّ العرب سياسة مقصودة لنشر اليأس والخيبة ولتقويض الإيمان بمقاومة إسرائيل أو الاحتلالات الأميركيّة التي تثلج صدور الأنظمة العربيّة الساعية نحو الخلود.
لكن الفصل بين حقبة وأخرى في سياسة الهويّة السياسيّة للدولة العربيّة الحديثة حصل بعد موت عبد الناصر. تلته الحقبة السعوديّة الأولى والثانيّة، والتي لا نزال نعاني ويلاتها، ومن آخر إنتاجاتها المُتمثّلة بالفتنة الشيعيّة ـــــ السنيّة. بدأ النظام العربي الرسمي بإعادة تشكيل نفسه لعكس تأثيرات عبد الناصر، وتأثيرات شعارات المرحلة وأحزابها. لم يكن الأمر سهلاً. احتاج لسنوات، ولمناهج دراسيّة، وللكمات ولكهربة أعضاء تناسليّة و«فلقة» في دولاب، كما احتاج إلى خطب متكرّرة عن تفوّق العنصر القُطري على عنصر قُطري آخر. واحتاج الأمر إلى حروب وقواعد عسكريّة أجنبيّة، وأغانٍ وسمفونيّات في عبادة القائد، وعبادة عائلته المظفّرة، وعبادة كلب العائلة المدلّل. لم يعد جائزاً قانوناً استعمال عبارة «الكيان المُصطنع» أو «صنيعة الاستعمار» مع أن كل تلك المصطلحات دقيقة تاريخيّاً. بات الشعار السائد هو «القطر أولاً». وللشعار تاريخ مُستقى من العهد النازي الذي بثّ روح التفوّق الآري. وليس مُستغرباً أن الحكم الأردني بدأ برفع شعار القطريّة في سبيل التمهيد لأيلول الأسود. وزاوج النظام الأردني بين الشعارات القطرية والترويج لأولويّة الهم الاقتصادي والوعد بحل مشكلاته.
لكن رحلة القطرية لم تتمتع بالزخم الهائل إلا على يد أنور السادات. وليس صدفة أن كل الدول التي وقّعت اتفاقات استسلام مع إسرائيل، بما فيها لبنان، وإن كانت أحلام آل الجميّل تبخّرت بسرعة، قد مهّدت لتلك الاتفاقات عبر ضخّ دعاية قطريّة. وسِمات العقيدة القطريّة جسّدها السادات عندما بدأ قبل حرب تشرين وبعدها ـــــ تلك الحرب التي انتهت بهزيمة للعرب ـــــ بالقضاء على تركة الثقافة السياسيّة الناصريّة. وتضم تلك السمات: 1) إعلاء عرقي للذات القطريّة. 2) المزاوجة بين القطريّة والرخاء، وبين العروبة (ونصرة فلسطين) والبؤس. 3) تعظيم الخلافات بين العرب، وتصوير الصراع التاريخي مع إسرائيل أنه ينحصر في خلاف حول الحدود (أو حول ملكيّة المزارع في مسخ الوطن اللبناني). 4) عزو الهزائم العربيّة والفقر إلى توجّه عروبي وحدوي. لم نكن نعلم وقتها أن البناء المصري القطري الذي دشّنه السادات كان يهدف إلى التمهيد للاستسلام أمام إسرائيل. لذلك، لم يكن من باب الصدفة أن الرئيس المصري الذي «بشّر» الشعب المصري بأن حرب أكتوبر كانت «آخر الحروب» بين مصر وإسرائيل، دشّن لحرب مصريّة ضد ليبيا لم يوفّر فيها ما لدى جيشه المهزوم من أسلحة. والمراجع الأميركيّة تذكر عن تلك المرحلة أن السادات كان مزمعاً على المضي إلى النهاية في حربه على ليبيا، لو لم تردعه واشنطن لأسباب خاصّة بها. طالبته بالتأديب فقط. لكن مسار السياسة المصريّة على امتداد العقود الماضية يسمح برسم خط صعود بياني يرافق بين التأجيج القطري والاقتراب ـــــ الذيلي دائماً ـــــ من إسرائيل. والقُطريّة ليست عقيدة فقط، بل وسيلة من وسائل عديدة لحماية الأنظمة التي كانت حتى السبعينيات مهجوسة بخطر الانقلابات.
كانت الفكرة الوحدويّة تمثّل خطراً على كل الأنظمة العربيّة لأنها تسمح بالاندماج النضالي (والتآمري) بين العرب. كان زمن يتبوّأ فيه عراقي عضويّة المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، وكان عراقي آخر يقود تنظيماً شيوعيّاً ثوريّاً في لبنان يبادر عام 1978 إلى تشكيل جبهة المقاومة الوطنيّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وحده عبد الناصر لم يكن يخشى مضاعفات الفكر الوحدوي، ربما لأنه كان يضمن زعامته وشعبيّته. أما الباقون من الحكّام، فكان تأييدهم للعروبة لفظيّاً. ولم يساهم في البناء القطري فقط هؤلاء الذين يسهل تصنيفهم في معسكر الرجعيّة العربيّة، مثل السعوديّة ومصر والمغرب. فالبعثان كرّسا القطريّة مثلهما مثل التجربة الساداتيّة. حزبٌ كان يبشّر بالوحدة العربيّة انقسم فصيلين متناحرين في دولتين تتبادلان السيّارات المفخّخة لحسم صراع كان يُقال لنا إنه محض عقائدي.
في مراجعة سيرة التجربة القُطريّة لا يمكن تجاهل إسهام ياسر عرفات. صعد عرفات على قطار شعار «القرار الفلسطيني المستقل». والشعار هذا، مثل كل شعارات عرفات وخطبه، كان مُخادعاً ومُرائياً. فلم يكن يقصد استقلاليّة القرار الفلسطيني. على العكس، فقد أحكمت السعوديّة ودول المعسكر الأميركي السيطرة على حركة فتح ـــــ كما يظهر في وثائق أميركيّة أُفرج عنها وتعود إلى أوائل السبعينيات ـــــ وأراد عرفات إبعاد القرار الفلسطيني عن تلك الأنظمة والأحزاب التي كانت تشكّك في توجّهات عرفات التسووية، وكانت تعد ببرامج أكثر جذريّة من برامج حركة فتح ـــــ التي باتت تشكّل ميليشيا من المنظومة الاحتلاليّة لإسرائيل، لا تختلف في ذلك عن ميليشيا أنطوان لحد. وكانت القضيّة الفلسطينيّة هي الجامع الأكبر بين العرب ومركز الثقل في الفكر الوحدوي، لكن عرفات طرد الشعب العربي منها، بعدما أجلس أمراء النفط ومشايخه في سدّة قيادتها.
انطلقت المسيرة القطريّة على كل الجبهات ومن كلّ المنابر. صدام، البعثي القومي العربي، بدأ بابتكار خطاب قومي عراقي ضيّق يزخر بقيم ورموز من التاريخ القديم (درس ذلك أماتزيا بارام). أصبح نبوخذ نصّر أكثر أهميّة من ساطع الحصري في الدعاية السياسيّة لصدّام. والأنظمة الخليجيّة سرّعت وتيرة البناء القطري الضيّق، وكرّست ذلك في مجلس التعاون الخليجي (والفكرة أميركيّة. هل هي الصدفة أن التنظيمات العربيّة «الجامعة» ، مثل الجامعة العربيّة ـــــ التي صمدت من حيث عدم انقراضها مثل الوحدات الاندماجيّة ـــــ كانت من بنات أفكار المُستعمِر؟) الذي وحّد الجهود الأمنيّة ونفى فكرة التوحّد. إنه التوحّد حول تكريس الانقسام.
والطريف أن الليبيراليّة العربيّة المُروِّجة لفكر القطر أولاً (أو الأمير مُقرن أولاً في لبنان، أو دايتون أولاً في فلسطين، أو القائد العسكري الأميركي أولاً في العراق، أو رئيس «المحطّة» أوّلاً في الأردن، أو السفير الإسرائيلي أولاً في مصر، إلخ) لا تزال تسخر من أي فكرة للتعاون أو الوحدة بين العرب، مع أن أوروبا بل العالم أجمع يتجه في مناطقه المختلفة، ذات الصفات الأقل تآلفاً في ما بينها من تآلف العرب، نحو مزيد من الوحدة. أي إن الوحدة، في نظر هؤلاء، هي دليل رقيّ في أوروبا ودليل تخلّف عند العرب. لكن متى كان الانسجام المنطقي أو الفكري من صفات الدعاية السعوديّة، بأشكالها المختلفة ـــــ الدينيّة المتزمّتة، أو الليبراليّة الزائفة؟ عوضاً عن ذلك، يروِّج الفكر القطري لأحقيّة الشرذمة والانفصال، إلا إذا أضرّ بمصلحة الدولة السعوديّة الأم. وعليه، فهم يؤيّدون تقسيم العراق ويعترضون على أية حركة مناهضة للوحدة ـــــ بالقوّة في اليمن غير السعيد.
لكن الفرصة الذهبيّة لتعزيز القطريّة (الشوفينيّة دائماً لأن كل نسق من القطريّة العربيّة يتفجّر ضد الضعفاء من الغير في الوطن: ضد الخادمات الآسيويّات والأفريقيّات في كل البلدان العربيّة، ضد الشعب الفلسطيني في الأردن ولبنان، ضد العمّال السوريّين في لبنان، ضدّ الأقليّات الدينيّة في السعوديّة ومصر والمغرب، ضد الأكراد في سوريا ولبنان والعراق (سابقاً)، كما الشوفينيّة تعكس نفسها إزاء الرجل الأوروبي الأبيض، وتتمثّل به، لا بل تتعبّد له سياسيّاً) تبلورت مع انطلاق الفضائيّات التلفزيونيّة في منتصف التسعينيات. وكانت الخطة القُطريّة واضحة في توجّهاتها في الفضائيّات القُطريّة.
أولاً، اتجهت كل الفضائيّات العربيّة لتكريس وقت وجهد وحماسة فائضة للتغطية الرياضيّة. وفي مجتمع تقلّ فيه ممارسة الرياضة وتنتشر فيه البدانة، عمدت الفضائيّات إلى إظهار المباريات الرياضيّة كرمز للعزة الوطنيّة والفخر القُطري. ويصبح عندذاك الفريق الوطني للكرة ـــــ بصورة خاصة، أو كرة السلّة في لبنان، لكن موضوع لبنان مختلف لأن ما ينطبق على القطر في الدول العربيّة ينطبق على الطائفة في لبنان ـــــ بمثابة صنو للعلم الوطني. ويظهر ذلك في تعيينات المسؤولين عن الفرق الرياضيّة. وفي نظام صدّام، أصبح الرجل الثاني في الحكم، عديّ صدّام حسين، المسؤول عن اللجنة الأولمبيّة وعن فريق كرة القدم الوطني. ولم يكن مستغرباً أن يتحوّل جبريل الرجّوب، مسؤول سابق للاستخبارات بمسمّياتها المختلفة في سلطة أوسلو، مسؤولاً عن فريق كرة القدم الفلسطيني. أمّا في السعوديّة، فقد تطوّر الأمر إلى درجة أن المناقشات الرياضيّة وتحليل المباريات تشغل ساعات من البث المباشر والمسجّل على الفضائيّات هناك. وموقع «يوتيوب» يزخر بمشاهد الأمير سلطان بن فهد وهو يقرّع المحلّلين على الهواء ويدافع عن حسن إدارته لفريق كرة القدم السعودي. وهنا معضلة الأنظمة العربيّة: أصرّت على ربط كرامتها وعزّتها بأداء فريق كرة القدم الوطني، لأن لا عزّة لها في التصدّي للخطر الصهيوني ولحماية حدودها وللدفاع عن مواطنيها، ممّا جعل من أي هزيمة رياضيّة هزيمة وطنيّة مُهينة للأمة الجمعاء.
ولم تكتفِ الأنظمة العربيّة بالإنفاق على التغطية الرياضيّة والتحليل الرياضي الطويل، بل اكتشفت الجدوى السياسيّة من مباريات المبارزة الغنائيّة والشعريّة والحفظ القرآني. والمباريات المذكورة يمكن أن تكون على أساس فرق غير منقسمة قطريّاً، بل يمكن أن تتشكّل فرق مختلفة على نطاق العالم العربي. لكن الأنظمة العربيّة اختارت تلك المباريات لرفع العلم القُطري ولتأجيج المشاحنات والخلافات والكراهية بين الدول العربيّة، وكل ذلك لإطفاء نار العداء ضد إسرائيل لأن كلفة ذلك العداء فوق قدرة طاقة الأنظمة العربيّة المرتبطة بالخطط الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة. وبرامج «سوبر ستار» و«ستار أكاديمي» تفعل فعلها في تعبئة قُطريّة ضيّقة: وليس هذا الأمر عفويّاً. لو لم نقع عفواً على برهان قاطع، لقالوا إننا ننزع نحو نظريّة المؤامرة ـــــ وهي ضروريّة للتبصّر. فقد سُرِّب مضمون وثيقة خاصة بوزارة الدفاع الأميركيّة تتعلّق بالعراق. وجاء فيها أن الحكومة الأميركيّة اقترحت على الحكومة العراقيّة (التابعة) أن تستحدث نسقاً عراقيّاً عن برنامج «أميركين أيديل» الأميركي، وهو مثل «سوبر ستار»، وذلك من أجل زرع شعور بالوطنيّة العراقيّة.
لن تنتهي الأزمة بين مصر والجزائر بسهولة. فقد غفرت الحكومة المصريّة وبعض الشعب المصري لإسرائيل جرائمها ومجازرها وقتلها لأسرى الحرب المصريّين. لكن الحكومة المصريّة وبعض الشعب المصري لن يغفر للشعب الجزائري إهانة علاء وجمال مبارك بعدم تقديم الفوز لهما لتدعيم حملة التوريث المباركة أميركيّاً. بعض المتظاهرين المصريّين هتفوا ضد الجزائر بعد صلاة الجمعة. لافت كيف باتت مصر تستقوي إزاء الدول العربيّة، وقت تتلقّى المهانة الشخصيّة من وزير الخارجيّة الإسرائيلي فتردّ بدعوة نتنياهو إلى إفطار رمضاني. قل هي قوانين التوريث. تستطيع أن تورّث قرداً في العائلات العربيّة الحاكمة مقابل تسريع التطبيع مع إسرائيل. الفرقة والتشرذم لم يأتيا عفواً. ومحاربة القوميّة العربيّة كانت سياسة أميركيّة ثابتة، كما شرح أرشي روزفيلت (خبير الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات الأميركيّة لعقود) في كتابه «شبق المعرفة». وقد رأينا النزوع الاستعماري في العراق. المُستعمر يعمد دوماً، كما يقول المثل المعروف، إلى التقسيم والشرذمة. من أنعش قبائل العراق وعشائره؟ كانت العشائر والقبائل العراقيّة منتعشة ومدعومة مباشرة من المستعمر البريطاني، إلى أن جاءت الثورة في 1958 وقضت على النفوذ العشائري والقبلي. (صدّام عكس توجّه البعث العقائدي نحو العشائر بعد إذلاله عام 1991، ودعم بروز دور العشائر والقبائل).
مرّ أسبوع من الجنون الشوفيني في مصر، وردّ البعض في الجزائر على ذلك بتعصّب شوفيني مضاد. لكن الحمّى بدأت بالاستعار في مصر. كانت جزءاً من خطة التوريث التي تشغل حسني مبارك. والنائب مصطفى الجندي لم يجد إلا هذا الوقت للصراخ بضرورة اعتماد الجلابيّة زيّاً مُوحِّداً مصريّاً. ولا يمكن إهمال فعاليّة هذا التأجيج الشوفيني ونجاحه في أوساط الشباب. لو أن الشباب الذين واجهوا الشرطة المصريّة من أجل التعبير عن سخطهم لهزيمة فريق «الفراعنة» فعلوا ذلك من أجل غزة أو لبنان، لكان ذلك قد شكّل نوعاً من الرادع للوحشيّة الإسرائيليّة. لكن لهؤلاء أولويّات. بين التأجيج المذهبي الحادّ والتعبئة القطريّة الشوفينيّة، اختارت الأنظمة العربيّة عناصر الثقافة السياسيّة المُهيمِنة. الركود الشعبي العربي والاستكانة العامّة في وجه تغييرات سياسيّة عالميّة قضت على أنظمة مُتمرّسة في القمع والقتل في أفريقيا وأميركا اللاتينيّة وأوروبا الشرقيّة لم تحدث أثراً عندنا. لا يُردّ ذلك إلى عوامل جينيّة أو إلى صفات «العقل العربي» أو إلى طبائع «الاستبداد الشرقي». لكن الولايات المتحدة وأنظمتها الحليفة عملت منذ زيارة السادات المشؤومة إلى تغيير جذري في الثقافة السياسية السائدة، وذلك من أجل تسوير الكيان الصهيوني بجدار شعبي من المحبّة أو اللامبالاة ـــــ والنتيجة السياسيّة واحدة بين الاثنتين. ووائل عبد الفتاح يردّد مقولات فؤاد عجمي عن موت العروبة وعن الغوغاء، وكأن السلطة براء مما حصل. وظهور «المواطن» علاء مبارك، كما وصفته محطة «دريم»، لضخّ المزيد من التحريض العنصري، ساهم في إبقاء نار التحريض الشوفيني ملتهبة: جريدة «الجمهوريّة» ـــــ مستعيرة، في الهوس بإرضاء الرجل الأوروبي الأبيض، من ثورة (حرّاس) الأرز ـــــ أصرّت على أن أعمال الشغب التي أصابت عشرات من الجنود والضبّاط بالجروح وأدّت إلى تدمير 24 سيّارة كانت «متحضّرة».

الأنظمة العربية ربطت عزّتها بفريق كرة قدمها لأنْ لا عزّة لها في مواجهة الخطر الصهيوني
وكعادته، يعمد حازم صاغيّة (الذي وجد في الحركة الحوثيّة مؤامرة ما بعدها مؤامرة لتقويض الاستقرار في المملكة العزيزة على قلبه، وعلى قلب مدّعي الليبراليّة العربيّة) إلى استغلال حدث سياسي للاستعارة المطلقة من الاستشراق الإسرائيلي المبتذل ـــــ متوائماً كالعادة مع مصلحة آل سعود ـــــ: فتجده يقول إن الشعب العربي عبّر «بملء إرادته» عن عدائه للعربي الآخر، لا لإسرائيل. لعلّ صاغيّة (يجب أن نستعيد ما قاله فيه الراحل مهدي عامل في كتابه «في الدولة الطائفيّة»، ص. 31) هلّل في سرّه. يحتاج صاغيّة إلى النظر في مسألة لاعفويّة الجماهير. لعلّه يقرأ ما جاء في كتاب بارنغتون مور الفذّ، «الجذور الاجتماعيّة للديكتاتوريّة والديموقراطيّة» الذي جاء فيه: «الناس يتعرّضون للكم والإهانة، ويُرسلون إلى السجن، ويُرمى بهم في معسكرات الاعتقال، ويتعرّضون للتهديد، ويتلقّون الرشى، ويصبح بعضهم أبطالاً، ويُحثّون على قراءة الصحف، ويوقّفون أمام حائط ويُرمون بالرصاص، وأحياناً يُعلّمون علم الاجتماع، كل ذلك من أجل سيادة نظام قِيَمي معيّن» (ص 486). لا، لم تكن تلك التظاهرات والشغب والكراهيّة عفويّة: إنها نتاج سياسات مطبوخة ومحضّرة، بدأ السادات بالإعداد لها قبل أن يجرؤ على مصارحة الناس بنيّته الحج إلى الكنيست.
ليست هذه دعوة للعودة إلى الشعارات القوميّة البائدة: فهزال الهويّة الجامعة هو نتيجة أفعال لأنظمة الشوفينيّة والطائفيّة الحادّة، ونتيجة أيضاً لفشل أنظمة قوميّة وتقصيرها وجرائمها: سوء تجربة «الجمهوريّة العربيّة المتحدة»، واحتلال العراق للكويت، وسوء سيطرة النظام السوري في لبنان، والتهريج القومي للقذّافي، وانشطار اليمن، بالإضافة إلى شرذمات دعاة القوميّة العربيّة. لكن أبواق آل سعود يعيّرون ما بقي من جثّة عبد الناصر، لأن مثالهم في الأنبار: إنه أحمد أبو ريشة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)