دوّار من الألوان والجنسيات الزاهيةأليسار كرم
تبدّل وجه الدورة بعد انتهاء الحرب اللبنانية. أصبحت نقطة تجمّع لوسائل النقل المشترك نظراً إلى موقعها عند المدخل الشرقي للعاصمة، ولكونها قد أصبحت مركزاً للمصارف والمحالّ التجارية والمؤسسات التي أقفلت فروعها في ساحة البرج. تعرّف عمّال لبنان الأجانب إلى هذه النقطة القريبة من المدينة الصناعية في الكرنتينا وفي البوشرية، وباتت، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، نقطة تجمّعهم أيام العطل والآحاد، منها ينطلقون بسيارات الأجرة أو الباصات إلى مختلف المناطق اللبنانية لاكتشافها، أو للبحث عن فرص عمل جديدة فيها.
لا يمرّ يوم أحد، وهو يوم العطلة مبدئياً، دون أن يشهد محيط مستديرة الدورة حركة سير ضاغطة وزحمة أجانب: سريلنكيون وهنود وباكستانيون وفيليبينيون وإثيوبيون وسوريون ومصريون وعراقيون، من المناطق كلها. منهم من يأتي للتبضّع، ومنهم من يعرض بضائعه على عربة خشبية يتنقّل بها ملاحِقاً رزقه، أو يعمل في محالّها التجارية ومراكز الاتصالات الخارجية. الطرقات التي اتسعت، متخمة باليد العاملة الرخيصة التي تمدّ المنطقة بالحيوية، وقد طوّروا أنفسهم، وعزّزوا حضورهم، ولم يعودوا يكتفون بأعمال التنظيف في البيوت أو المؤسسات، كما هي النظرة السائدة.
الدورة، وهي في الأصل حيّ من أحياء برج حمود، اتخذت اسمها بعدما كان «ترامواي بيروت» يصل إليها آتياً من ساحة البرج، ثم «يدور» حول السكة ليعود إلى المحطة الرئيسة وسط بيروت. أما المستديرة التي لا ترتاح من هدير الآليات وغبارها، وتشهد كل عام أشغال توسيع وتجميل، فأُقيمت منتصف خمسينات القرن الماضي، وفق ما شرح عضو بلدية برج حمود، جوزف القهوجي لـ«الأخبار». اليوم بات هذا الحي نقطة استراتيجية تجارية تتراصّ فيها المصارف ومعارض السيارات والمدارس الخاصة والمعاهد التقنية والمهنية، وتحوّلت خزاناً لأشغال «محتقرة»، كما يسميها بعض العمال الأجانب، يلجأ إليها غير المتعلّمين منهم، ليبدأوا حياتهم في موطنهم الجديد. يتوافد العمال الأجانب أيام الآحاد خصوصاً. يلتقي السوريون والمصريون في قهوة عند الزاوية المواجهة للمستديرة، فيما يفضّل الهنود والباكستانيون السير على الأرصفة، والوقوف ضمن مجموعات عند مداخل الأزقّة الضيقة والطرقات الفرعية. أما الإثيوبيات والفيليبينيّات فيلجأن إلى محال بيع العطور والحلي المستوردة من إثيوبيا، فيما السريلنكيات والسريلنكيون يكادون يستثمرون معظم المحال وأكبرها، ويتوزّعون بين الشارع الرئيسي والطرقات الفرعية ومحيط المستديرة.
يبحث هؤلاء الغرباء عمّا يذكّرهم بأوطانهم وطفولتهم وروائح بيوتهم
ناصر محمّد مثلاً، سوداني يعيش في لبنان منذ 9 سنوات، فتح هنا محلاً صغيراً للخياطة ورتق الملابس منذ سنتين. في زقاق ضيق يتفرّع من الشارع الرئيس، ينبعث ضوءٌ خفيف من غرفة صغيرة تتلوّن حيطانها الهرمة بألوان السّاري السريلنكي أو الهندي والمناديل والبراقع والأقمشة الزاهية. يجلس ناصر وراء ماكينة من الطراز القديم يتفحّص سروالاً رجالياً بعناية، بينما يتبادل أصدقاؤه أطراف الحديث باللّهجة السّودانية. بدا متعباً من كثرة العمل، تقاوم جفونه النعاس لئلّا يغلبها. «اليوم الأحد أفتح المحل منذ الصباح حتى ساعة متأخرة، أما في بحر الأسبوع، فأفتح بعد أن أُنهي عملي في إحدى شركات الصرافة في الحمرا». يأتي من عائشة بكار إلى الدّورة لأن «الأجانب كثيرون هنا وعندهم طلبات». لا يهتم بجنسياتهم ولا تعوقه اللغة عن التواصل معهم «الأجانب بيفهموا على بعض»، يقول. «أنا مش مبسوط». يتابع ناصر: «العمل متعب والمدخول قليل جداً، فيما الإيجارات مكلفة. أدفع 250 دولاراً شهرياً لإيجار هذه الغرفة الصغيرة، إضافةً إلى 50 دولاراً أخرى لصاحب المولّد الكهربائي».
«هنا مرجع الإثيوبيّين والإثيوبيات، أسافر منذ 6 سنوات إلى إثيوبيا وأشحن البضائع. أؤمّن لهم زيوتاً للشعر ومستلزمات التجميل، إضافةً إلى الأنواع التقليدية من الأطعمة والأشغال اليدوية والموسيقى على كاسيت أو أقراص مدمجة»، يقول اللبناني محمد الزايد. تقترب شابة سمراء وشّحت شعرها الجعِد بخصل ذهبية، يناولها الهاتف بعد أن يطلب لها الرقم. «أبيعهم خطوطاً هاتفية للاتصال بالخارج كما اعتدتُ تأمين الخدمات، فشبكة المعارف التي تكوّنت لديّ منذ بدأت هذا العمل تسهّل عليهم حل مشاكلهم مع الكفيل، أو مكتب التوظيف أو السفارة». اللبناني محمد الزايد يتقن اللغة الإثيوبية، ويتواصل بسهولة مع زبائنه، يحافظ على ثقتهم به، ويحرص على أن يتعرّف إلى كل عامل جديد وصل أخيراً إلى لبنان. «أنا اختصاصي إثيوبيّين، والجميع يعرف ذلك، أما غيري، فيبني علاقاته مع جنسيات أخرى كي لا تحصل أيّ مضاربة»، ويشير بيده إلى دكان سمانة لجاره اللبناني، الذي تفوح منه رائحة البهارات والمطيّبات. يطل شاب أسمر نحيل يخبئ ابتسامة خجولة تحت شاربيه الكثيفين ويتمتم: «أهلاً يا أختي».
يجلس فيصل، كما اكتفى بالتعريف عن نفسه، بين أكياس الأرزّ والبرغل والحبوب والبهارات. يدير ظهره إلى رف مليء بالأقراص المدمجة المنسوخة التي تراكم عليها الغبار، ويلقي التحية على المارّة من وراء واجهة زجاجية يتسلل الضوء من خلالها. «أعيش في لبنان منذ 17 سنة لأعيل زوجتي وأبنائي الثلاثة في باكستان. بدأت العمل هنا منذ 4سنوات، وأنا مبسوط، فراتبي الشهري 300 دولار، ولا يتأخر صاحب الدّكّان يوماً واحداً عليّ». تنفرج أساريره وتنفكّ عقدة الخجل عندما يدخل زوجان هنديان ليشتريا بعض المعلّبات والبطاريات، يتبادلان حديثاً ويضحكان. يتردّد الزوجان في الإفصاح عن اسميهما. «أنا نيلا»، تبدأ السيدة المتأنّقة بالسّاري بالقول قبل أن يقاطعها زوجها: «أنا جاك وهي ريتا». لا يعير اهتماماً للاستغراب، وينصرف بسرعة حاملاً أكياسه. يوضح فيصل: «هو يأتي من رومية، حيث السجن الكبير، ليصلّي في كنيسة الهنود القريبة من المدينة الصناعية. نحن نخاف أحياناً. عندما يعتقد اللبنانيون أن كل العمال الأجانب «ما بيسوو». قليلون هم الذين يَسكرون أو يفتعلون المشاكل، فلماذا يتصرفون معنا جميعاً كأننا كلنا سيئون؟ والله حرام».
جايانتي وكوماري وتالا، شابات سريلنكيات تأنّقن بلباس «آخر موضة». انهمكن بتلبية طلبات الزبائن الذين شقوا طريقهم بين قطع الثياب المتدلية من السقف في غرفة تملأها رائحة السمك المقلي. واحدة ترد على الهاتف، وأخرى تصرف العملات وتتفقد الطعام على النار. يرفضن الحديث «نو مدام، شغل كتير».
مهما يكن من أمر، لا يتوانى هؤلاء «الغرباء»، مهما طالت إقامتهم في لبنان، عن البحث عن الأمان والاستقرار في شارع يعجّ بالأنوار والوجوه والألوان والروائح، لعلّهم يجدون ما يذكّرهم بأنوار بيوتهم، ووجوه نسائهم ورجالهم، وألوان طفولتهم وروائح أمّهاتهم. يحفرون خطواتهم على الأرض، ذهاباً وإياباً، كأنهم لا يدرون أين ترسو أقدامهم، وأين تكون محطاتهم الأخيرة‍.‏


اللبنانيون يستفيدون من الحركة