يحدث ذلك الآن في بيروت، لا في أوروبا القرن الثاني عشر، ولا في كابول منتصف التسعينيات. بيروت اليوم، اللاهثة خلف العولمة، ممنوعة من قراءة الأجساد
أحمد محسن
ممنوع على طلاب كلية الفنون (الفرع الأول) دراسة الجسد ورسمه عارياً. الجسد مخيف. هكذا قررت الجماعات التي طفت على سطح الحرب. هنا الظاهرة اللافتة. أزيلت مادة «الموديل العاري» من مناهج كلية الفنون الجميلة في الفرع الأول عام 1983، أي في صميم المجزرة. الجيل القديم من الفنانين الذين خرجوا عنوةً من رحم الكلية، يذكرون تلك الحقبة جيداً. كان «المقاتلون» حينها يتصرفون كفاتحين. يمكن القول إن تحريم مادة، حتى ولو كانت أساسية، كان ليمر مرور الكرام مقارنةً بأحداث القتل العادية آنذاك. وبالفعل، كان ذلك. لم يرفع أحدٌ صوته.
وعلى ذمة أحد الفنانين الذين عايشوا تلك الحقبة، تعرضت لوحات في ذلك العام للتمزيق والتكسير بشراسة، لأن فيها عرياً. وكأن العري ليس فينا، وكأن الحقيقة تعرف بغير التعرية. لكن الأصوات خفتت واستسلمت. غادرت رينيه ديك، ومريم خيرو وميشلين ضو، أروقة الجامعة. كنّ من القلائل اللواتي عملن كـ«موديل»، لهن سمعتهن الطيبة في الوسط التشكيلي المحلي. اليوم أيضاً، كما في حديث سابق لها (راجع «الأخبار»، الأربعاء 18/11/09)، رفضت رينيه التحدث على ذكرياتها في تلك المرحلة. مات هذا الشق فيها موتاً فظيعاً. صارت هي تخشاه أيضاً. وطبعاً، كان ألم الحرب أشد وقعاً. اعتقد الجميع أنها مسألة وقت، وتعود الأمور إلى طبيعتها. وبعد 27 عاماً، لم يتبدل شيء في الفرع الأول.
في أية حال، وجد الطلاب منافذ لهم. رسموا في الأمكنة المتاحة الأخرى. انتهت الحرب، لكن الوضع التحريمي راوح مكانه. أخذت ثقافة «التابو» بالاتساع، وبدأت حلول الطلاب تضيق تدريجاً، قبل أن تنحسر تماماً، بعد نقل كلية الفنون الجميلة إلى مجمع الحدث الجامعي. وهنا، بيت القصيد. هناك، يرى بعض طلاب الفنون أنهم «محاصرون». لا يوجب ذلك التعميم. بعض آخر منهم «مرتاح». هذا التحريم يناسب قناعته السيكولوجية. لكن هذا ليس صحياً أو طبيعياً إطلاقاً. الرسم العاري موجود في كل الحضارات، وفقاً للفنان حسن يتيم، الذي يدرّس الرسم اليوم في المعهد الثقافي الروسي. برأي يتيم، الخطوط في الجسم البشري تمثل كل الأشكال والخطوط الهندسية في الطبيعة. دراسته بديهية ومقاربة الجمال البشري توجب دراسة هذه المادة (Anatomy). يؤكد يتيم أن إيجاد حلول توافقية ممكن، بين البيئة الآخذة في التدين، وبين الفنون. يمكن وضع حد لهذه الإشكالية بإيجاد غرف ومعارض خاصة، لمن يرغب بدراسة هذه المادة، تكون اختيارية. وإذا رأى البعض في ذلك خطراً على ثقافته، فالأجدر به أن يمنع شاشات التلفزة وشبكة الإنترنت التي لا تقدّم الفنون أصلاً. يتيم مقتنع بأن أساتذة الجامعة يوافقونه، لكنهم يتعرضون لضغوط من جهات معروفة.
وللمناسبة، كانت كلية الفنون الجميلة في دمشق، تضم في محترفاتها ستة «موديلات» أنثوية وذكورية عارية خلال الستينيات من القرن المنصرم، قبل أن يُغتال هذا التقليد الأكاديمي في نهاية السبعينيات. هكذا، لحقتها بيروت في الثمانينيات، واستفحل الظلام في مهاجمة الفنون، بعد إلغاء مادة التشريح البشري الحي. لكن الوضع ليس قاتماً تماماً. ثمة ضفة أخرى دائماً.