في قصة أغرب من الخيال، أوهم أشخاص فتاة صغيرة بأنّ أهلها قد ماتوا، لتعمل في خدمتهم بالسخرة مدّة 50 عاماً. بعد اكتشافها الحقيقة، ووضع القضاء يده على القضية، تدهورت صحتها، وفارقت الحياة قبل أن تسمع حكم العدالة.
محمد نزال
«أريد حقي لا أكثر»... كلمات سعدى، رددتها بصوت متعب ومهزوم أمام قاضي التحقيق. بعد أيام رحلت عن دنيانا. قبل نحو أسبوعين، توفيت سعدى سليم، صاحبة القصة التي قد يفترض البعض أنها لا تحدث إلا في مخيلات كتّاب الروايات وصانعي الأفلام. ولدت سعدى سليم عام 1942 في كنف عائلة مؤلفة من 5 شقيقات و3 أشقاء، في بلدة بيصور ــــ جبل لبنان. بالنظر إلى الحالة المادية الصعبة للعائلة، اصطحبها والدها في خمسينيات القرن الماضي إلى العاصمة بيروت للعمل في منزل سيدة فرنسية، رغم أنها لم تكن قد أكملت بعد الـ15 من عمرها. بيد أن الأمر لم يطل. غادرت صاحبة البيت لبنان إلى بلدها، فحاولت سعدى العودة سريعاً إلى بلدتها. قادتها أقدامها إلى الدكان الذي سيغيّر مجرى حياتها إلى الأبد، لتسأل عن «بوسطة» تقلها إلى قريتها. لمعت في رأس صاحب الدكان فكرة «خبيثة»، نادى على زوجته واصطحبا معاً الفتاة إلى منزلهما، واستبقياها للعمل فيه كخادمة «مستغلين صغر سنّها، وأوهماها بأن بلدتها قد دُمّرت بالكامل، وأن أفراد عائلتها توفوا جميعاً». لم يكتفيا بذلك، فلم يعطياها حق الاحتفاظ باسمها، مطلقين عليها اسم مريم، رغم أنها أخبرتهما بأنها تُعرف في قريتها باسم لوسيا، وبأنها مسجلة في دوائر النفوس باسم سعدى سليم. مضت 20 سنة والزوج والزوجة يثابران على استخدام سعدى في منزلهما، دون أجر، باستثناء تأمين طعامها ولباسها. توفي الرجل وزوجته، فظنت سعدى أن كابوس غربتها قد دفن معهما، لكن ظنها قد خاب بعدما قررت ابنتا المتوفيين «توارث الخادمة»، فأخذتا تستخدمانها كل في منزلها، بل أكثر من ذلك، صارتا تعيرانها إلى بقية الأقارب لتعمل في منازلهم دون أجر.
ثابر الجميع على «استغلالها» في العمل لديهم، بعدما أحاطوها بظروف وعوامل جعلتها رهناً لإرادتهم، تابعة لهم ولصيقة بهم، سالبين حريتها في تركها تعيش وحدها «وفقاً لما كانت ترغب به»، حارمينها من فكرة البحث عن أهلها، الذين بحثوا عنها كثيراً ولم يجدوها. وقد زُرع الخوف في قلبها، بعدما هددها مستخدموها بأنهم سيتهمونها بالسرقة، في حال تركها العمل لديهم، فـ«تعمدوا» عدم إعطائها أي أجر مالي حتى لا تقوى على مغادرتهم. ولكي يسبغوا على فعلتهم طابعاً قانونياً، استحصلوا لها على جواز وبيان قيد إفرادي مزوّرين، يحملان الصورة الشمسية لها لكن ببيانات عائدة لشقيقتها التي كانت لا تزال تقيم في قريتها.
كبرت سعدى، صار عمرها 65 عاماً، وأصبحت عاجزة عن الخدمة في المنازل. قرر «مستغلوها» التخلص منها، فلم يشفع لها أنها قامت على خدمتهم وأولادهم وأحفادهم طيلة 50 عاماً، فقرروا رميها في مأوى للعجزة. استدعى الأمر أن يستحصلوا لها على بيان قيد إفرادي، فقدموا المستندات اللازمة إلى مأمور النفوس عبر البريد، بعد مرورها على أحد المخاتير. شاء القدر أن يكون مأمور النفوس من القرية نفسها التي منها سعدى، فأثار استغرابه أن الصورة الشمسية غير عائدة لمريم (شقيقة سعدى)، ما حدا به إلى طلب حضور صاحب العلاقة شخصياً.
حضرت السيدتان اللتان كانت صاحبة الطلب تعمل لديهما، فطلب مأمور النفوس منها التوجّه إلى أحد المخاتير لتخليص المعاملة، والأخير هو ابن شقيقة سعدى. وبالفعل، اصطحبتا صاحبة الطلب معهما إلى المختار المذكور، فاصطحبها بدوره إلى والدته في القرية، فلم تستوعب الأخيرة الأمر، هربت من هول الصدمة ولم تصدّق أن شقيقتها ما زالت على قيد الحياة. لكن شقيقة أخرى لسعدى حضرت إلى المكان، فتعرفت على شقيقتها وأخبرت بقية أفراد العائلة، فانهمرت دموع الحزن والفرح من عيون الحاضرين، باستثناء تينك السيدتين اللتين غادرتا المكان سريعاً.
لم تقتصر مأساة سعدى على ما مر ذكره، فقد أوردت في سياق التحقيقات أن زوج إحدى السيدتين اللتين عملت لديهما قد اعتدى عليها جنسياً 4 مرات، وأن زوجته وشقيقتها كانتا على علم بهويتها الحقيقية، وأنها كانت ترغب بالعودة إلى أهلها لكنهم منعوها من ذلك وهددوها بالسجن، فضلاً عن كونها «لم تكن تعرف الطريق إلى المكان الذي ستغادر إليه، إضافة إلى عدم حيازتها المال اللازم».
وبنتيجة التحقيقات، ادّعت النيابة العامة على 5 أشخاص من العائلة التي استخدمت سعدى طيلة 5 عقود، فحضر المدّعى عليه وزوجته إلى التحقيق ونفيا التهم المسندة إليهما، فيما لم يحضر المدّعى عليهم الآخرون. ومنذ 3 سنوات ما زالت القضية قيد المتابعة في القضاء، دون أن يجري توقيف أي من المدّعى عليهم، إلا أن صدر قبل نحو شهر قرار الهيئة الاتهامية في بيروت، برئاسة القاضية سهير الحركة وعضوية المستشارين ألبير قيومجي وهاني حلمي الحجّار، قضى بإصدار مذكرة إلقاء قبض بحق المدّعى عليهم الخمسة، وسوقهم إلى محل التوقيف التابع لمحكمة جنايات بيروت لمحاكمتهم أمامها، وذلك بجنايات المواد 569 و504/512 و463/454 من قانون العقوبات. وتتحدث هذه المواد القانونية عن «حرمان الحرية الشخصية بأية وسيلة تؤدي إلى ذلك»، وعن الإكراه على الخدمة دون قدرة على المقاومة، وعن «الإكراه على الجماع وفض البكارة»، إضافة إلى تزوير بيان قيد إفرادي وجواز سفر. ورأت الهيئة الاتهامية أن الجرائم المشار إليها لا تسقط بمرور الزمن، نظراً للظروف القاهرة التي أحاطت بسعدى ومنعتها من الادعاء القضائي، عملاً بأحكام المادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، فلم تتمكن من الادّعاء إلا بعد «تحررها».

أُخرجت سعدى من المستشفى لعدم قدرة أهلها على سداد تكاليف العلاج
لم تبتسم الحياة مرّة لسعدى، فحتى بعد صدور القرار القضائي المذكور وإحالة القضية إلى محكمة الجنايات لإعلان الحكم النهائي، لم يتسنَّ لها أن تقف تحت قوس المحكمة وتشهد على النطق بالعدالة، نتيجة لبيروقراطية القضاء في لبنان وبطء البت في المحاكمات. توفيت سعدى قبل نحو أسبوعين نتيجة تعرضها لذبحة قلبية، بعد معاناة طويلة مع المرض وفي ظل عدم العناية بها، بحسب ما قالت وكيلتها المحامية نادين موسى. تحبس المحامية دموعها وهي تتحدث عن سعدى، فتصرخ قائلة: «لماذا... لماذا لم يوفر لها أحد بطارية لقلبها التي طلبها لها الطبيب، أين كان المسؤولون عندما أخرجت سعدى من المستشفى لعدم قدرة أهلها على سداد التكاليف، فماتت نتيجة لغياب العناية الصحيّة إثر خروجها من المستشفى فوراً. أين كان الذين ظلموها طيلة 50 عاماً ولماذا لم يدفعوا قرشاً واحداً لعلاجها، علماً بأن أحد أسباب مشاكلها الصحية كان بسبب عدم تعرضها للشمس وزربها في الحمامات طيلة عقود».
وإن كانت المحامية موسى تشيد بـ«بشجاعة وإنصاف» قرار الهيئة الاتهامية، غير أنها تؤكد على متابعة القضية حتى النهاية «لمعاقبة الفاعلين، علّ روح سعدى تبتسم من عليائها. موكلتي سعدى، التي نشأت غريبة وعاشت غريبة وماتت غريبة».


رغبتها الأخيرة وهب عينيها

قبل أن تفارق سعدى الحياة، أوصت بأن توهَب عيناها إلى أحد المحتاجين، وهذا ما حصل بالفعل، بحسب ما أكدّ شقيقها خليل لـ«الأخبار». وقبل وفاتها، كانت قد دخلت في غيبوبة، فلم يعد بالإمكان إجراء عملية زرع بطارية للقلب، رغم أن وزير الصحة محمد جواد خليفة تعهد للعائلة أن يتكفّل أُجرة العملية الجراحية، ولكنّ الأوان كان قد فات.
يقول شقيق سعدى إنه ظل طيلة 50 عاماً يبحث عنها في بيروت، إلى أن عادت وبيدها عكّاز وهي عجوز. توفّيت والدتها بحرقتها، وكذلك الوالد، الذي أوصى ولده قبل وفاته بمواصلة البحث عن سعدى، وإكرامها إن عادت يوماً.
يحمّل خليل مسؤولية ما حصل مع شقيقته للعائلة التي «ظلمتها»، وتحديداً لناحية تدهور حالتها الصحية، وعدم رعايتها، علماً أنّ أحداً منهم لم يسهم في أيّ مبلغ لمعالجتها. ويختم خليل متمنّياً أن ينصف القضاء شقيقته ولو بعد وفاتها، ويشكر المحامية نادين موسى، التي «وقفت معنا بدون مقابل، فمهما فعلنا لا نستطيع مكافأتها، وهي التي زارتنا يوم وفاة سعدى، ورأيناها تبكي كمن فقد أمّه أو أباه».