يُحكى الكثير عن فساد بعض عناصر شرطة المرور وكيديتهم، لكن المعاناة التي يقاسيها جميعهم لا يذكرها أحد. ضربة الشمس، الربو، الديسك والدوالي جميعها أمراضٌ تُهدّد صحّة العاملين في هذا السلك إذا ما استُُثنيت حوادث الصدم التي تصطادهم بين حين وآخر
رضوان مرتضى
الأمر سيّان بالنسبة إلى شرطي المرور، سواء كانت أشعة الشمس حارقة أم كان الطقس ماطراً. تراه يقف وسط الطريق. يُنظّم مرور السيّارات. يطلب من هذا التقدّم ويُجبر ذاك على التراجع. يصرخ في وجه السائقين ويصرخون في وجهه. يُحرّر محاضر الضبط بحق المخالفين. معظمها محق، لكن الجميع يعترضون دائماً. سبع ساعات هي فترة المناوبة التي يقضيها شرطي السير تتخللها ربع ساعة راحة فقط. ربع ساعة يتيمة يقسّمها الشرطي بين دخول الحمّام وتناول الطعام والاستراحة من الوقوف. من هنا، تُعتبر الخدمة في سرية السير من أكثر المهمّات مشقّة. فيصفها بعضهم بأنها أشغالٌ شاقّة ويرى آخرون أنها تطبيقٌ للمثل القائل: «بالشتي غريق وبالصيف حريق».
دوماً، يشكو عناصر شرطة السير من فترة الخدمة الطويلة التي يقضونها وقوفاً. فبمجرّد توقّفك لبدء حديث مع أحدهم، يسارع الأخير إلى التذمّر والشكوى من الوضع العام لخدمته. إذ إن هناك فترتي مناوبة رسمية، تبدأ الأولى منذ الساعة السادسة والربع صباحاً حتى الواحدة والنصف ظهراً. وتبدأ فترة المناوبة الثانية من الساعة الواحدة من بعد الظهر حتى التاسعة مساءً. تضاف إلى هاتين الفترتين، فترة مناوبة مسائية تكون استثنائية فقط على التقاطعات الرئيسية، تبدأ من التاسعة مساءً وتمتد حتى الواحدة والنصف فجراً. لذلك يعتبر عناصر شرطة السير أن الفترة الأخيرة هي الفترة النموذجية للخدمة نظراً لأنها الأقصر بين الفترات الثلاث، وكونها تأتي في توقيت لا يكون ضاغطاً بزحمة السيّارات في العادة باستثناء الأعياد.
يتحدّث معظم العناصر عن انعدام هيبة شرطي السير لدى عموم المارّة
ليست مدّة الخدمة الطويلة المشكلة الوحيدة التي يعانيها عناصر شرطة السير، فبرغم أنها الأقسى، تبقى هناك مشاكل عديدة تُعكّر صفو عملهم. يتحدّث معظم العناصر عن انعدام هيبة شرطي السير لدى عموم المارّة. فيشيرون إلى أن المارّة لا يأبهون لتعليمات الشرطي كأنما لا وجود له. وفي هذا الإطار، يتحدّث أحد عناصر شرطة السير المكلّف تنظيم المرور على واحد من التقاطعات الرئيسية في العاصمة، فيشير إلى أنه غالباً ما يتشاجر مع السائقين المخالفين، يذكر شرطي السير أنهم يرفضون إعطاءه أوراق السيّارة، وعندما يقرر أن ينظّم محضر ضبط بحقّهم ينزلون من السيّارة ويبدأون بالصراخ عليه. ويلفت الشرطي المذكور إلى أن بعضهم يلجأ أحياناً إلى دفعه، ما قد يتطوّر إلى مشاجرة كما جرى معه في إحدى المرّات. «الشجار والتضارب ليسا أسوأ الأمور بالنسبة إلى الشرطي»، يقول عنصر السير ويضيف، «إذا حصل وتشاجرت مع أحدهم فستُعاقب وسينتهي بك الأمر في السجن حتى وإن كنت محقّاً». يتدخل شرطي آخر ليقول: «الوسايط سبب وصولنا إلى هذه الحال»، ويضيف، «يكون الحق معك، يُشغّل المواطن المدعوم الواسطة فيصبح الحق عليك». من هنا، ينطلق بعض عناصر شرطة السير ليبرّروا التفلّت الحاصل. فيشيرون إلى أنهم يبتعدون عن «وجع الراس بترك الأمور تجري على سجيّتها دون التفكير في المخالفين».
التذمّر من المشاكل وصعوبات الخدمة ليسا كلّ ما في الأمر، فهناك مخاطر كثيرة تُحدق بحياة هؤلاء. ففضلاً عن حوادث الصدم التي تترصّد عناصر شرطة السير بين الحين والآخر، هناك مشاكل صحيّة لا حصر لها. وفي هذا الإطار، يشير أطباء واختصاصيون في الصحة العامة إلى أن تعرّض شرطي السير إلى أشعة الشمس ساعات طويلة يسبب مضاعفات صحية تبدأ بمشاكل بالأنسجة الدموية للرأس قد تتطوّر مع مرور الوقت. تضاف إليها المضاعفات الصحيّة التي تنتج من الوقوف المستمر ساعات طويلة كأمراض الدوالي والديسك. ويلفت اختصاصيو الصحة إلى أن المشاكل الصحية لا تقتصر مسبباتها على الوقوف المستمر وأشعة الشمس، فهناك خطورة في استنشاق عناصر الشرطة المستمر دخان السيّارات الناتج من انبعاثات احتراق البنزين والمازوت. فالاستنشاق المستمر على المدى الطويل لهذه الانبعاثات يقصّر أعمار العاملين في هذا المجال نتيجة الأمراض التي قد تسببها هذه الغازات، والتي يتعرّض لها هؤلاء أكثر من غيرهم بحكم وجودهم المستمر بين السيارات ودخانها. تضاف إلى المضاعفات الصحيّة أيضاً، الأمراض العصبية التي يكون شرطي السير عرضة لها بفعل ضغوط زحمة السير المستمرة والمسؤولية الملقاة على عاتقه في حال حصول مشاكل وخلافات مع السائقين.
إذاً.. «عمدوب بالشمس متل قطعة لحم بس مضطر، عندي ولاد بدّي أكّلهن، مش معلَّم وما عندي خيار، تعوّدت صارلي سنين».. جميعها عبارات تسمعها من عناصر شرطة السير عند سؤالهم عن رأيهم في الوقوف على تقاطع الطرق لتنظيم حركة السير. العبارات محزنة لكنها كفيلة بشرح الأسباب التي تقف وراء استمرار هؤلاء في الخدمة بانتظار حلول لا تزال بعيدة.


محاولات إصلاح ضمن المستطاع

لا ينفي المسؤولون المعنيون الواقع المأزوم الذي تعانيه سرايا السير في لبنان، لكنهم يتحدّثون عن محاولات حثيثة لخفض وطأة المشاكل التي تعترض طريق الوصول إلى واقع عصري لسرايا السير. وفي هذا الإطار، يذكر مسؤول أمني لـ«الأخبار» أن هناك مشروعاً لخفض ساعات الخدمة إلى أربع باعتبار أنها الفترة المثالية وفق ما هو معتمد عالمياً. ويشير المسؤول المذكور إلى أن النقص في العديد هو المشكلة الأبرز التي تعترض طريقهم، لكنه يلفت إلى أن توافر العديد اللازم لا يحل مشكلة السير بل يسهّلها، لأن الحلول لا تكون إلا عبر خطة واضحة لتنظيم قطاع النقل.
يشار إلى أن فترة المناوبة على نقاط السير كانت ست ساعات، لكنها رُفعت لتكون سبع ساعات لسد النقص الموجود في العديد.


الخدمة

وسط السيّارات المارّة على تقاطع برج أبو حيدر، سقط المجنّد جورج أبو ملهب أرضاً. اقترب منه زميله فوجد الدم ينزف من أنفه. نقله إلى المستشفى، فتبيّن أنه قد توفي نتيجة إصابته بانفجار دموي حاد في الدماغ، وقيل نتيجة سكتة قلبية إثر توقّف مفاجئ في القلب والرئتين. توفي جورج أثناء قيامه بمهمّاته خلال الخدمة. لم تكن وفاة جورج بسبب شمس ذلك اليوم، كما ذُكر في تقرير الطبيب، لكن قد يكون هناك آخرون توفّوا نتيجة أسباب ربّما تكون العوامل المذكورة في هذا التحقيق هي أحد مسبّباتها. وتجدر الإشارة إلى أنّ حوادث الصدم هي أكثر ما يتعرّض له عناصر شرطة المرور، إذ يكاد لا يمر شهر إلّا يكون هناك عنصر أو عنصران يرقدان في المستشفى إثر حادث، الأمر الذي يفرض ضرورة التحرك لتفادي هذه الحوادث.