دانيال بلمار يقرأ الصحف اللبنانية ويقول «لو لم أكن حسّاساً تجاه ما يجري لكنت غير مسؤول». لكن هل تدلّ تصرّفاته على حساسيته المسؤولة؟ حديثه الإعلامي الأخير يفتح النقاش
عمر نشابة
المدّعي العام في المحكمة الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري اختار إطلالته الإعلامية عبر موقع إلكتروني (ناو ليبانون) ليدلّ على حذره من قرائن قد تشير إلى ضلوع إسرائيل في الجريمة. وبينما يرفض بلمار الإجابة عن سؤالين طرحهما عليه الزميل آرثر بلوك بشأن استماعه إلى شهود أو مشتبه فيهم إسرائيليين أو موجودين حالياً في إسرائيل، يبادر الرجل إلى إعلان أمرين يتعلّقان بمضمون مقابلات المحققين بمسؤولين في حزب الله (Hizbollah officials) وشكلها. ومن خلال ذلك يتجاوز المدّعي العام الدولي مبدأ سرية التحقيق التي طالما نادى باحترامها. فبلمار وافق على الإجابة عن سؤال يتعلّق بمقابلات فريق التحقيق مع مسؤولين في حزب الله عبر إشارته إلى أن كلام هؤلاء لم يشر إلى المعلومات التي وردت على لسان السيد حسن نصر الله خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في 9 آب الفائت. أما في الشكل، فقد أكّد بلمار أن المقابلات مع المسؤولين في حزب الله تجري على أساس أنهم شهود، «مثلهم مثل أي شهود آخرين». لكنه لا يفصح عن احتمال وجود شهود إسرائيليين. لا تفسير واضح لتلك الازدواجية في التعاطي مع معلومات تخصّ حزب الله وأخرى تخصّ إسرائيليين، لكن لا شكّ في أنها تثير أسئلة عن مستوى الحياد الذي يفترض أن يتمتّع به جميع العاملين في المحكمة الدولية إذا كانت وظيفتها عدلية. أما إذا كانت وظيفتها سياسية، فلتصرّفات بلمار تفسيرات مقنعة.

عاصفة الأدلّة ظرفية

«الصورة الكاملة» ستكون قابلة للتشكيك أمام هيئة المحكمة بفضل الدفاع
قال بلمار «إن الأدلة الظرفية هي عبارة عن وقائع صغيرة، عندما يُنظر إليها كلّ واقعة على حدة، لا تعني شيئاً، لكن عندما يُنظر إليها معاً، تصبح الصورة الكاملة غير قابلة للتشكيك (irrefutable)». وحسم أن «الأدلّة الظرفية أكثر قوّة (more powerful) من الأدلّة المباشرة». هذا الكلام الحاسم لا يتناسب مع معايير العدالة ومع إجراءات المحكمة الدولية، إذ إن «الصورة الكاملة» تكون دائماً «قابلة للتشكيك» أمام هيئة المحكمة بفضل وظيفة الدفاع. وكان الرئيس أنطونيو كاسيزي قد نوّه بالتوازن بين الادّعاء والدفاع الذي يحقّ له إجراء تحقيقاته لدحض الاتهامات. ولا شكّ في أن التشكيك في الأدلة الظرفية أكثر سهولة من التشكيك في الأدلة المباشرة. لنناقش المثل الذي عرضه بلمار خلال مقابلته الصحافية. يقول: «تريد أن تثبت أن الأمطار هطلت اليوم، فتثبت أن الرصيف مبلّل، وتثبت أنه لا أحد نظّف الطريق، إلخ. هذه الحقائق وحدها لا تعني شيئاً، لكن إذا جُمعت يمكن التوصل إلى خلاصة أن الأمطار هطلت بالفعل. هذا ما أعنيه بالأدلة الظرفية». لكن بلمار نفسه كان قد قال إن الأدلة هي التي توجّه التحقيق، ورفض الرؤية الموجهة مسبقاً أو ما سمّاه «نظرة النفق» (Tunnel Vision) بينما يتحدّث عن انطلاق منهجية الإثبات بإعلان «فرضية». ففي المثل الذي تحدث عنه، يبدأ بعرض فرضية هطول المطر، ومن ثمّ يبحث عمّا يثبتها. ويمكن بالتالي أن يستعين صاحب «نظرة النفق» بذلك للوصول إلى الفرضية التي تقع في آخره.
وإذا كان السيد حسن نصر الله مثلاً يعتمد «نظرة النفق» الذي ينتهي بأن إسرائيل اغتالت الحريري (وهو ما نفاه في 9 آب)، فإن القرائن التي تقدّم بها خلال المؤتمر الصحافي، وهي قرائن تدخل في خانة الأدلّة الظرفية، تسهم في إثبات المسؤولية الجنائية الإسرائيلية. لنعد مرّة ثانية إلى المثل الذي أورده بلمار ونستبدل المطر بإسرائيل، «تريد أن تثبت أن إسرائيل قتلت الحريري، فتثبت أن طائرة «إيوكس» كانت في المكان وقت وقوع الانفجار، وتثبت أن عملاءها راقبوا المكان مسبقاً، إلخ. هذه الحقائق وحدها لا تعني شيئاً، لكن إذا جُمعت يمكن التوصل إلى خلاصة أن إسرائيل قتلت الحريري بالفعل». لكن ماذا لو اختار بلمار حزب الله بدل المطر؟