في حوار مفتوح، كشف وزير الثقافة عن الملفات الشائكة التي يعيشها يوميّاً في الوزارة، وحاول أن يُبرز أهمية إقرار قانون حماية الأبنية التراثية، التي تمثّل حمايتها لولب حياة الوزارة
جوان فرشخ بجالي
بعدما تولّى وزارة الثقافة، بقي سليم وردة بعيداً عن وسائل الإعلام لمدة ستة أشهر. كان في حينها مختبئاً في مكتبه يدرس ملفات الوزارة، لكي يستطيع أن يجيب عن كل منها دون العودة إلى الأوراق. أنهى الوزير فروضه بنجاح تامّ، فهو يتنقّل من حديث إلى آخر، من موقع أثري إلى مثيله دونما أن يقع في فخّ الفترات الزمنية أو التواريخ المغالطة. حتى إنه بات يعرف الأسماء التاريخية للمواقع. وهو بات يعرف مشاكل وزارته عن ظهر قلب، وهو مدرك أن إحدى أهم العقبات هي الموازنة. فيمتعض ويقول إنّ ميزانية وزارة الثقافة للبنان كله أقل من ميزانية مدينة جنيف وحدها. لذا، يقول الوزير: «لا بد من النظر إلى الخارج. وقد حصلت وزارة الثقافة على هبات من سلطنة عمان لإنشاء دار الثقافة والفنون، ومن أمير الكويت لإتمام متاحف أثرية لمدينتي بيروت وصيدا. ونحن الآن نعمل على تحريك هذه الهبات، ليبدأ العمل الميداني. وأنا أحرص على تنفيذ أقوالي، وسنرى في الأشهر المقبلة نتيجة بداية الورش».
وعن الملفات الصعبة والساخنة التي تعمل عليها الوزارة، يقول وردة إن أصعب ملف هو ملف الأبنية التراثية، وخاصةً تلك المشيّدة في العاصمة بيروت. ويؤكد وردة «لم آت إلى الوزارة لأرضي أحداً إلّا ضميري. ومشروع قانون حماية الأبنية التراثية سأسير به حتى النهاية. رغم أنه أصعب ملف أتعامل معه. وأرى أنني ربحت أولى المعارك. فقد حوّلت هذه المعركة من أولوية لوزارة الثقافة إلى أولوية لرئاسة الحكومة. فالبيان الوزاري الذي أصدرته لجنة برئاسة وزارة الثقافة، ومكوّنة من المدير العام للآثار، والمدير العام للتنظيم المدني، ورئيس بلدية بيروت، بات سارياً، وعلى أساسه أوقفت كل أعمال الهدم لأنّ التراخيص لا تُقبل إلّا إذا وافقت عليها هذه اللجنة، التي لن تقبل الهدم. وقد تقدمت إلى وزير الداخلية بكتاب طلبت إليه تبليغ الشرطة هذا الوضع، وكان متعاوناً جداً».
ربما ربح الوزير وردة المعركة سياسياً وقانونياً، ولكن ستبدأ اليوم معركته الحقيقيّة. معركة ضد السياسيّين وأصحاب الأموال والمشاريع الكبيرة الذين غالباً، إن لم يكونوا من سياسيي البلد، فهم طبعاً من المقرّبين إليهم. وهل سيقبل هؤلاء هذا الواقع، وهل سيسمحون بتمرير القانون وتطبيقه؟
لذا، لا بد من أن يكون لهذه المعركة غطاء سياسي واسع يسمح للوزير بدفع العجلة إلى الأمام. ويقول وردة: «رئيس الحكومة هو أول المدافعين عن بيوت بيروت، فنحن على اتصال دائم، حينما يعلم بمشروع هدم يتصل بي ليخبرني عن تفاصيل قد أجهلها، وليؤكد لي دعمه الخاص لتوقيف الهدم! فأنا اليوم أصبحت شرطياً في الدولة مهمتي الأولى توقيف ورش الهدم. يتصلون بي ليلاً ونهاراً، ويرسلون إليّ الصور عن البيوت التي بدأ العمل على هدمها، وأنا أتحرك لوقف هذه الأعمال التخريبية».
ويعرض الوزير سلسلة صور وصلت إليه عبر صندوق بريده الخاصّ عن عملية هدم بعض البيوت. الصور صاعقة! فالبيوت هندسيّاً في غاية الجمال، وقد زُيّنت سقوفها بخشبيات دمشقية مزخرفة وملوّنة، يحرص المالكون على أن تكسر إلى قطع صغيرة.
يعمل الوزير الآن لتمرير قانون حماية الأبنية الأثرية، الذي أُخرج أخيراً من خزائن اللجان النيابية، التي أدخل إليها ما إن وصل إلى المجلس النيابي. ويكشف الوزير وردة أن مناقشة القانون ستجري أمام المجلس في الأسابيع المقبلة. ويشير الوزير إلى التعديلات التي أُدخلت على القانون (الذي كان قد طرحه الوزير طارق متري)، تتركّز على إعطاء تحفيزات لأصحاب العقارات، باعتبار أنّ المحافظة على بيوتهم ليست مهمّة لهوية المدينة فقط، بل هي مهمة لهم اقتصادياً. ويشرح: «بيع عامل الاستثمار مثلاً سيوفّر الدخل المستمر لأصحاب البيوت التراثية، لأنه سيمسح لهم ببيع ما كان يمكن تشييده من طوابق عليا لأصحاب الأبراج العالية. وورثة البيوت القديمة سيُعفَون حتى 50% من رسوم انتقال الملكية، وستُعفى هذه البيوت من الضرائب البلدية لمدة عشر سنوات. كل هذه التحفيزات التي نقدّمها تترجَم بأرقام فعليّة، ومن شأنها أن تمثّل دوافع لتشجيع أصحاب البيوت على إبقائها».
يبدو وردة صارماً وواضحاً في موقفه من حماية البيوت التراثية، وهو مستعد لأن يتحمّل عواقب هذه المواقف، ويعدّ الوزارة بمثابة تحدٍّ يرفض أن يفشل فيه. هو الآتي من القطاع الخاص، ومن إدارة الأعمال يريد أن يؤكد للرأي العام أنه «ينجز ما يتعهّده، وخصوصاً أنه اختار وزارة الثقافة ولم يأتِ إليها غصباً أو صدفة».
يحاول وردة أن يعطي الوزارة ديناميّة لم تكن تعهدها أخيراً، حيث بدأ يغيّر في إدارتها، وباتت التقارير تقدّم كل ثلاثة أشهر لمتابعة سير العمل. واستحدث وردة «وسام الثقافة والفنون» قائلاً: «كفانا تقليد الفنانين أوسمة بعد وفاتهم. المهم أن يعرفوا خلال حياتهم أنّ دولتهم، التي قد لا تستطيع أن تقدم الكثير إليهم، على الأقل تقدّر أعمالهم. هذا الوسام سيقلَّد سنوياً للّامعين في المجالات الثقافية من كتابة ورسم وسينما...».
يطمح وردة إلى تحويل وزارة الثقافة من مدافع بحسب المبادئ عن التراث إلى عنصر فعّال يحرك الجمعيات والمجتمع المدني. لا شك في أنّ الهدف سامِ، ولكن الطريق لا تزال في أوّلها، والأشواك في المرصاد، فهل سينجح الوزير المتحمّس، الذي يعرف أنّ الكأس نصف فارغة، ولكنه يبشّر دوماً بأنّ نصفها ممتلئ؟