يُعد الملك هيرودس حاكم مقاطعة فلسطين الرومانية، من أكثر الشخصيات التاريخية المثيرة للجدل؛ فهو يحرك شغف الباحثين حول العالم ويثير الاهتمام على المستوى الشعبي والثقافي
أسامة العيسة
يرتبط اسم هيرودس بمذبحة أطفال بيت لحم، لدى ولادة السيد المسيح، حسب إنجيل لوقا. وبحسب القصة الدينية، هو من أمرَ بقطع رأس يوحنا المعمدان نزولاً عند طلب سالومي التي رقصت أمامه عارية حاملة رأس يوحنا المعمدان. ومثّلت هاتان القصتان محور العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية، ورسخّتا في الثقافة صورة الملك المجنون. وهيرودس من أعظم البنائين في فلسطين ومناطق أخرى من الأردن وسوريا امتد إليها حكمه، وتشهد على ذلك القصور والمسارح والحصون والقلاع والمدن، وغيرها من الشواهد الصامدة والمثيرة حتى الآن. وهو أوّل من أسّس حكماً علمانياً في فلسطين، وكان له التأثير الواسع في التاريخ اليهودي، ما دفع الدكتور يهودا نيتسر، من الجامعة العبرية في القدس، إلى إجراء تنقيبات أثرية مستمرة في الهيروديوم، التل الواقع في برية القدس منذ بدء الاحتلال عام 1967. وبعد حفر دام ثلاثين سنة، أعلن نيتسر في عام 2007 اكتشافه ضريح هيرودس من دون تقديم أدلة مقنعة، فما عثر عليه لم يكن سوى قطع متناثرة لتابوت حجري. لكن الخبر أحدث ضجة عالمية، وتمكن وقتها نيتسر، المأخوذ بشخصية هيرودس، أن يقنع الممولين بجدوى استمرار عمله. وهو ما حدث فعلاً، بخاصة بعدما أعطى الاكتشاف المزعوم دعاية ضخمة لإسرائيل في الولايات المتحدة والعالم. واحتل الخبر الصفحات الأولى من الجرائد ونشرات الأخبار (حتى العربية منها) طبعاً دونما الإشارة إلى أن الموقع الذي يحفر فيه نيتسر يقع في مناطق محتلة وتحظر القوانين الدولية العمل فيه.
تمدد مجمّع غوش عتصيون إلى موقع «الاكتشاف»
وقد استغل مجمّع غوش عتصيون الاستيطاني، الذي مدّ نفوذه إلى موقع «الاكتشاف» لمزيد من الدعاية السياحية، وبدأت عملية تمويل الحفريات. وكانت الأمور تأخذ منحىً دراماتيكياً في السنوات الماضية حينما اقتصرت الاكتشافات على الكنائس البيزنطية، والأنظمة المائية الرومانية التي يصعب ربطها بقبر هيرودس.
لكن قبل شهور قليلة، أعلنت الجامعة العبرية، أن نيتسر عثر على المسرح الملكي في الهيروديوم. وتحدث نيتسر بثقة عن اكتشافه، وربطه بهيرودس، وقال إن اكتشافه يكشف عن أسلوب الحياة الفاخر الذي مَيّز حياة الملك الشهير. وتناست الجامعة، في تواطؤ أخلاقي، ذكر أن ممول مواسم الحفريات الجديدة هو مجمع مستوطنات غوش عتصيون، ضمن خطة تطويرية سياحية، على حساب أراضي الفلسطينيين.
وقال نيتسر إن المسرح، الذي بني في عام 15 قبل الميلاد، يقع فوق تل قريب من ضريح هيرودس، وإن المسرح استخدمه «ملك يهودا»، وأصدقاؤه المقربون وأفراد الأسرة. وكشف أيضاً عن لوحات، من الجص تزين الجدران، وهو النمط الذي يكشف لأول مرة عنه في فلسطين، وكان معروفاً في روما وكامبانيا في إيطاليا خلال تلك السنوات. وأعرب عن اقتناعه بأن من نفذ ذلك هم فنانون من إيطاليا، وتعود إلى الأنماط التي كشف عنها في مدينة بومباي الإيطالية.
وساعدت روعة المكتشفات في المسرح، نيتسر، على تأكيد استنتاجاته التي سارع الممول الرئيسي، المجمع الاستطياني، إلى تأكيد أهمية تجهيز المسرح الملكي وضريح هيرودس بسرعة لفتح أبوابهم أمام السياح الذين تتزايد أعدادهم يومياً في زيارتهم للموقع. وهكذا، بات للمستوطنة ركائز تاريخية وسياحية تحيط بها وتزيد من شرعيتها الدولية. وكان لمسيرة نيتسر أن تأخذ طابعاً درامياً تكفلت به الأقدار. ففي الأيام الأخيرة من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وحينما كان نيتسر يحفر في الهيروديوم سقطت عليه بعض الصفائح المعدنية، فأصابته بجروح خطرة، توفي على أثرها عن عمر 76 عاماً.
رحل نيتسر، وسيكمل تلامذة كثر ما بدأه، في إقلاق راحة هيرودس، الذي لا ينقصه إلا الإيديولوجيا الدينية المتعصبة ذات الأهداف السياسية. والخاسر في كل الحالات، هو تاريخ فلسطين الذي يبدو أنه سيظل مجهولاً إلى إشعار آخر.