strong>فداء عيتاني
ثلاث وجهات في النظر ونقاشات تكرّر نفسها

من يزر قرى الجنوب اليوم يشهد تغيّراً كبيراً على الأرض، لا يتجلى فقط في سعة انتشار قوات الطوارئ الدولية، ولا في كثافة حواجز الجيش اللبناني، ولا في غياب مظاهر التحدي التي كان حزب الله يحيط بها كل النقاط الحدودية، ولكن أيضاً في جنوب حديث البناء، فقد أهله كل منازلهم التي احتوت ذكرياتهم. لكنّ الثمن الهائل «لا يعني الهزيمة، ففرنسا تكبدت ثمناً هائلاً في الحرب العالمية الثانية لانتصارها على النازية» كما يرى الرئيس السابق سليم الحص، إلا أن الدمار في فرنسا لا يلغي الانتصار، وفي لبنان كذلك، لا يلغي الدمار والكلفة البشرية الهائلة ـــــ بحسب منطق الحص ـــــ الانتصار.
إلا أن الحص نفسه يعتبر أن كبر الانتصار هو من الزاوية القومية. فهو أعاد تظهير القومية العربية التي لم تمت أصلاً، وهو بالتالي انتصار على المستوى القومي، والحص يرى فيه أيضاً انتصاراً لبنانياً.
الياس عطا الله، ممثلاً قوى 14 آذار، يرى أن الحرب زادت من المفاعيل السياسية السلبية، «رغم الإرادة العسكرية التي لا يشك أو يناقش فيها أحد». ولكنه ينظر الى الحرب من خلال نتائجها. وهو من هذا المنطق يسأل «هل تساوي الحرب الخسائر التي تكبدتها؟»، و«هل كانت هناك دواعٍ تستأهل هذه الحرب؟»، مشيراً الى أخطاء حزب الله الكبيرة التي ارتكبت بعد القرار 1701 مثل الارتداد نحو بيروت (الاعتصامات والمطالبة بتأليف حكومة وحدة وطنية).
في المقابل، فإنّ أحد مهندسي التفاهم بين التيار الوطني الحر وبين حزب الله، زياد عبس، يعتقد أنه على المستوى السياسي يمكن اليوم رؤية المشهد السياسي اللبناني دون ملاحظة الانتصار الذي حققته المقاومة في حربها الأخيرة، إذ لم يُستثمر الانتصار في الداخل اللبناني.
حرمة الاستثمار الداخلي
بعيد انتهاء حرب تموز كانت قوى 14 آذار والسلطة تشير بأصابع الاتهام الى المعارضة، ليس فقط لأنها «تحمل سلاحاً غير شرعي»، ولا لمجرد أنها ترفض تطبيق النقاط السبع، معطوفة على اتفاق الطائف حول سلاح الميليشيات مضافة الى القرار 1559 وبند تجريد الميليشيات من أسلحتها، ولكن بوضوح لأنها «تحاول استثمار الحرب في السياسة المحلية». وذلك رغم أنّ من البديهيات السياسية أن تقوم المقاومات في كل العالم على برامج سياسية داخلية.
في لبنان، تم تحجيم البرنامج السياسي للمقاومة عبر السنوات الماضية، وبات من المتعارف عليه سياسياً في لبنان أن مهمة المقاومة هي حصراً المقاومة. فيبدو أنّ بديهيات علم السياسة لا تنطبق عندما يصل الأمر الى حزب الله وانتصار عام 2006.
وربما كان الأدهى من اعوجاج المنطق السياسي اللبناني هو مراعاة المقاومة نفسها لهذا المنطق، حيث تتصرف سياسياً بتحفظ كبير تجاه كل «الحساسيات اللبنانية»، ويصبح النقاش السياسي في لبنان شبيهاً بمحاججة بين طفلين أحدهما يصر على الـ«نعم» والآخر على الـ«لا».
تحصين وأثمان
بما أن المقاومة انتصرت، فلا بد من تحصينها وحماية لبنان عبرها، هذه على الأقل وجهة نظر المعارضة. وبما أنّ المقاومة كلّفت لبنان ثمناً مرتفعاً، فلا بد من سحب سلاحها واستخدام قوات دولية (لا بأس من أن تكون تحت سلطة الأمم المتحدة بعد فشل تمرير قوات دولية برايات دولها) يساندها الجيش اللبناني، وتتكفل بسحب سلاح المقاومة. إلا أن هاتين الرؤيتين السياسيتين متعارضتان الى الحد الذي لا يسمح بالنقاش الجدي، كل ينطلق من تحديدات متعارضة ومتناقضة، ويرفض فريق 14 آذار مناقشة أي انتصار، كما يرفض إيجاد أي صيغة توافق داخلية تعيد تشكيل السلطة السياسية عبر حكومة وحدة وطنية.
يسير النقاش السياسي في دوائر مغلقة. نسمع من الرئيس السابق سليم الحص، والنائب الياس عطا الله، والقيادي في التيار الوطني الحر ثلاث وجهات نظر.
الحص
يقف الحص أحياناً بمواجهة حزب الله: «طبعاً ليس في زمن الحرب، إذ كنت أؤيّد المقاومة كلياً لأنها كانت تواجه عدواً». ولكن رئيس الحكومة الأسبق عاد بعد الحرب وانتقد الحزب حيث يرى أنه يجب أن ينتقد: «كنت ضد الاعتصام المفتوح، فللمواطن الحق في التظاهر دستورياً وديموقراطياً، ولكن لا تملكون (كحزب) حق المكوث في الشارع. لقد كتبت بعض الانتقادات للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله حين هدّد بالعصيان المدني، إلا أنه عاد وأقلع عنه».
وحين يصل السؤال إلى رئيس الحكومة الأسبق عما أدّت إليه حرب تموز في نظر البعض من اللبنانيين من هزيمة سياسية داخلية، يسأل محدثه «والانتصار أليس احتمالاً ولا خياراً؟»
يرى الحص أن الحرب لم تكن سبباً للانقسام الذي كان موجوداً قبلها. لكن استغلها فريق 14 آذار لتعميق هذا الانقسام. ولم يكن من قبيل الصدفة اتخاذ مجلس الوزراء قراراً بالتبرؤ من عملية أسر الجنديين التي قام بها حزب الله، وعدم الاعتراف بها والوقوف ضدها، وهو الأمر غير المألوف في لبنان وكان هناك نوع من التحدي في هذا الموقف.
«فليقولوا لنا كيف نحرر الأسرى اللبنانيين من السجون الاسرائيلية، وهو الهدف الذي أراده حزب الله من العملية، إلا أن حزب الله أساء التقدير، في وقت كانت فيه إسرائيل جاهزة لشن حرب على لبنان، وقد اعترفت بأنها تهيّئ نفسها لحرب».
ولا شك في أن هناك «من استغل الحرب من خلال التركيز على الثمن الذي دفعه لبنان في الحرب كأن يقال: «ماذا كلفتم لبنان، هل هذا انتصار؟ وتكبّدنا خسائر ودماراً وضحايا، وهذه هزيمة». فإن شئت أن تقول ذلك فهذا من حقك. لكني أستغرب هذا الكلام لأنه موقف سياسي مسبق. ففرنسا دُمرت في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولم تسمح لثمن الحرب بطمس وهج الانتصار. لكنهم هنا لا يرون شيئاً من الانتصار، ويتكلمون فقط عن الدمار والتهجير والقتلى. ويقولون: «كلفتمونا كل هذا، وكنا بغنى عنه وأنتم من ابتدأ الحرب. هذا ليس انتصاراًً بل هزيمة». مع العلم بأن اسرائيل بحد ذاتها اعترفت بالهزيمة».
محلياً... الانتصار
ويقول الحص: «محلياً، يمكن ترجمة النتائج السياسية للحرب وفقاً لوجهة نظرك، وبحسب موقعك السياسي. ولكني أنظر الى الحرب من منظار قومي. فالحرب كانت مفصلاً ونقطة تحوّل في الصراع العربي الاسرائيلي، فلا قبل لنا على مواجهة إسرائيل في حروب تقليدية، إلا أنه في ثلاث حالات أثبتت المقاومة أنها هي الرد. الحالة الأولى كانت في عام 2000 عندما كنت رئيساً للوزراء ـــــ وأعتز بها، رغم أنه لم يكن لي الفضل فيها ــــ بجلاء الاسرائيليين عن لبنان، وكانت المرة الأولى التي تخلي فيها إسرائيل أرضاً عربية كلياً ما عدا مزارع شبعا، من دون قيد أو شرط. لم نجرِ مباحثات أو مفاوضات ولم نوقّع».
لكني أقول إن الفضل يعود للفلسطينيين، اذ إنه يمكن القول ان المقاومة الفلسطينية ناشطة بوتيرة متفاوتة، وقد بدأت منذ عام 1948. وإسرائيل المدعومة من أعظم قوة في العالم الولايات المتحدة، وهناك تطابق استراتيجي بين الاثنتين، رغم ذلك، وبعد حوالى 60 سنة، لا يزال الفلسطيني يقاوم داخل فلسطين وداخل الكيان الاسرائيلي، ويقوم أحياناً بعمليات على تخوم تل أبيب، وتحت عناوين معروفة: حماس، فتح، الجبهة الشعبية والديموقراطية. فلم يستطيعوا سحقهم بعد مرور 60 سنة. هذا هو منطق المقاومة. وهنا كان الفضل الأول للفلسطينيين بالرغم من عدم انتصارهم، إلا أن صمودهم كان انتصاراً بحد ذاته. برهن هذا المنطق أن المقاومة هي الطريق الوحيد للتصدي لأي عدوان اسرائيلي».
وأما المرة الأخيرة فكانت في حرب تموز حيث انتصرت المقاومة، على الرغم من تشكيك البعض في الانتصار. فهل كان يتصور أحد منا أن المقاومة مهما تكن قوية سوف تحتل إسرائيل أو تحرر القدس. للانتصار مقاييسه.
وفي خلال الحرب الاخيرة اختلط علينا الأمر في ما إذا كانت هذه حرب إسرائيل بدعم أميركي أم حرباً أميركية بتنفيذ إسرائيلي. لست أدري حقيقة الأمر.
من هنا نسأل: هل هزمت إسرائيل أم انتصرت؟ وكيف انتهت الحرب؟ حيث بدأت. لقد انتهت الحرب عند تخوم القرى الحدودية. هناك بدأت وهناك انتهت. خلال الساعات الـ48 الأخيرة من القتال، حاولت إسرائيل جاهدة أن تحتل نقطة واحدة عند الليطاني إلا أنها لم تتمكن من ذلك بسبب تصدي المقاومة لها.
إذاً يمكنك من خلال موقعك السياسي أن تسمّيها انتصاراً أو هزيمة، وأنا أسمّيها انتصاراً.
ما بعد بعد لبنان
الشعور العربي تجاه قضية فلسطين ما زال على حاله، مع أن الرأي العام العربي مكبوت وصامت. وبعد حرب تموز، تفاعل الشعب العربي مع الانتصار، حتى في البلاد التي وقّعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل. ففي مصر والأردن، ظهرت صور نصر الله في أماكن لم تظهر فيها حتى صور عبد الناصر، ما يدل على أن الشعور القومي ما زال حياً. الجمهور العربي اليوم مشغول بمشاكله عن قضاياه. وحرب تموز أعادت تظهير القومية العربية ولم تعد إحياءها.
قضم الانتصار
لا أرى أن الانتصار قد تآكل. ومن حاول قضم الانتصار الذي حققته المقاومة في الحرب ومن حاول عدم تثمين النصر على المستوى السياسي الداخلي هم بعض من لهم مصالح في هذا المجال، والامر بدأ بعيد عملية الأسر واشتعل أكثر فأكثر بعد الحرب عمداً، ولكن هل يعني هذا أن نستسلم لمنطق هؤلاء؟ وأن ندع إنجازاً بهذا الحجم يذهب سدى نتيجة منطق هؤلاء؟ وهم كل يوم يتحدثون بمنطق مختلف؟ وهم الآن يحاولون الوصول إلى التفاوض مع حسن نصر الله ولو بالواسطة بعد أن شتموه وأطلقوا عليه النعوت. والذين افتعلوا الانقسام يحاولون الآن ترميمه ولكن قراراهم ليس بيدهم بل في الخارج. وهم يشعرون اليوم بأن أميركا تنفتح على إيران وسوريا لحل مشاكلها.
على المستوى اللبناني، الانقسام اللبناني قائم منذ زمن. وسبق أن كتبت أن تعبير «نحن اللبنانيين» هو كذبة، فلا شيء اسمه «نحن اللبنانيين»، بل نحن السنة والشيعة والموارنة. لذلك لا يمكنك التعميم في لبنان. وإذا قلنا هناك فشل، فهذا من وجهة فريق معين.
في لبنان انتصر حزب الله وانهزم، فبالنسبة إلى فريق انتصر حزب الله، وبالنسبة إلى آخر، هزم حزب الله.
عطا اللهإنّ قوى 14 آذار التي انبثقت منها الحكومة التي كانت تضم 3 وزراء من حزب الله، لا تنفّذ السياسة الأميركية. على العكس فإن أداء الحكومة في 12 تموز، كان، بإجماع لبناني، يمثل إبداعاً في العمل السياسي، وكل القرارات التي اتخذتها الحكومة حظيت بإجماع اللبنانيين، وتجسّد عمل الحكومة في 1701 كما في النقاط السبع التي يقول بعض الأفرقاء، بعد عام عليها، إنه كانت له ملاحظات عليها لم نسمع بها في حينه.
الحرب والمآزق
لم تضعنا الحرب في أي مأزق ــــــ كما يقول النائب عطا الله عن قوى 14 آذار ــــــ لأننا تعاملنا مع الحرب بالاختلاف السياسي لجهة غياب الشراكة في القرارات المصيرية والوطنية. تعاطينا مع الخلاف السياسي على أساس ان هذه الخطوة كان يجب ان تكون محسوبة بشكل مختلف، لأننا نعتقد ان لدى اسرائيل حقداً مميزاً على لبنان لأنه ألحق بها الهزائم. وأرجو ان يتذكر الجميع ان المقاومة لم تبدأ في التسعينيات، بل بدأت في 82 مع الحزب الشيوعي اللبناني، وكنت أجسّدها، واستمر هذا الخيار فاعلاً حتى سنة 88، وخرج من حلبة المواجهة بفعل القتل من قبل الاستخبارات السورية ولا أدري من عاونهم في ذلك. ومن منطلق ما نعرفه عما تبيّته اسرائيل لنا، كان من المفترض أن يكون الجو السياسي مؤمناً ومحضراً لشراكة وطنية، إضافة الى توفير المستلزمات المادية.
من قام بحرب تموز ترجم الشرخ السياسي بعد وقوع الحرب. أثناءها حصل نوع من القطع مع منطق الشراكة الذي كان يُبحث على طاولة الحوار، وخصوصاً الاستراتيجية الدفاعية. انتهى الحوار في 12 تموز نتيجة العدوان. ولم يكن هناك نية لمتابعة البحث، واكتشف الجميع أنه لا يوجد علاقة بين الممارسة والكلام. كنا نضحك على بعضنا، ولم يكن هناك صدقية في منطق التفاعل والتعهدات والكلام الذي جرى على طاولة الحوار. ناقشنا الاستراتيجية الدفاعية، وإذا بها تنفذ. هذه مفارقة.
بعد حرب تموز زادت المفاعيل السلبية على رغم الإدارة العسكرية التي لا يشك أو يناقش فيها أحد، أي تمكن حزب الله من توفير عناصر محترفة مؤمنة، وقادرة ومدربة، وقابلة للصمود في وجه الآلة العسكرية الاسرائيلية. وغالباً ما تقاس الحروب من خلال نتائجها. من المؤكد أن البطولة قيمة بحد ذاتها، لكنني أنظر الى النتائج. هل تساوي هذه المعركة خسائرها؟ هل كان هناك دواعٍ تستأهل الحرب؟
انسلاخ 14 آذار
ثمة أخطاء كثيرة وقعت بعد القرار 1701، كمثل الارتداد نحو بيروت، ومثل الخطاب المفصلي الذي اتهم الحكومة بأنها حكومة فيلتمان، وما سبقه من خطاب لبشار الأسد، في 14 آب، الذي قال إن 14 آذار هو منتج اسرائيلي، فقط لأننا التزمنا وجهة نظرنا. على رغم أن حزب الله وقّع على 1701، وأنا أعلم أن الرئيس السنيورة بقي حتى الساعة 1:30 ليلاً ليأخذ توقيعهم.
اليوم عندما أسمع الخطاب الذي يقول إن مشروع سحب سلاح حزب الله دفن إلى الأبد، أعتقد أن هناك احتمالين: الأول أن يكون لدى حزب الله خطة أن يحكم، وبالتالي يحول سلاحه إلى سلاح شرعي. أما الاحتمال الثاني فهو أن لبنان بالنسبة إليهم ليس وطناً لدولة، بل منصة لمشاريع أخرى.
الارتباط بالإدارة الأميركية
ولا يلمس النائب عطا الله أي ارتباط بالإدارة الأميركية: لم أرَ يوماً أي جندي أميركي أو بارودة أميركية. وبالعكس، فقلبي يتقطع على الجيش اللبناني الذي يحارب في الشمال ولا تأتيه مساعدات. أنا ألوم الولايات المتحدة والدول العربية هنا، وأستغرب كيف لا نسمع أي موقف من حزب الله إزاء ما يجري في الشمال. أعتقد أن الاعتداء في تموز الماضي كان على لبنان والاعتداء في تموز 2007 هو أيضاً على لبنان، لكن يبدو أن لكل لبنانه.
أنا لا أرى نفسي جزءاً من مشروع إسرائيلي أو أميركي. هم لا يستطيعون إنكار علاقتهم بالمحور السوري الإيراني، لذلك يضعوننا في محور آخر لتبرير هذا الانقسام. إني لا أرى في مطالب حزب الله أو في طريقة تعاطيه مع الاستحقاقات أي مشروع دولة، على العكس مشروع دويلة.
لم يهدِ حزب الله الانتصار لأحد، بل للمشروع الذي يشكل شراكة مع النظام السوري أو الإيراني، والأولوية للنظام الإيراني. من هذا المنطلق، أنا لا أفهم كيف أن حكومة المقاومة السياسية التي أنتجت القرار 1701 ضمن النقاط السبع، يقال عنها حكومة فيلتمان بعد شهر واحد على انتهاء العدوان.
إنّ المعركة التي فيها الكثير من عناصر الصمود، استخدم مردودها ضد الدولة اللبنانية. وهنا نقول إن النظام السوري شريك في القرار وفي الوجهة التي نستخدم فيها هذه النتائج. لقد وُظّفت زمنياً لا إلهياً في رياض الصلح وفي الهجوم على الحكومة والمحاولات لإسقاطها وطرح شروط جديدة تهدد النظام اللبناني، لا بل إنّي أعتقد أن الحرب كانت مرتبطة بالأجندة العامة التي تستهدف المحكمة، وخاصة أن (المحقق الدولي سيرج) براميرتس استنتج ان المحكمة هي محطة استهداف دائم في الماضي، والحاضر، والمستقبل.
نجح حزب الله في عدم التزام مصالح الدولة، في حين أننا نقول إن البند الأول هو بناء الدولة. هناك مسألة وحيدة لا نستطيع التنازل عنها وهي الدم والجريمة. ما عدا ذلك، نريد تطبيع العلاقات لأننا لا نكنّ الكراهية للشعب السوري.
انتصار حزب الله
برأيي لم يكن يجوز لحزب الله أن يستثمر انتصاره على الصعيد السياسي في الداخل بتاتاً. فليستثمره في السياسة، لكن ليس بهذا النوع من الارتداد. كان حزب الله أولاً في الحكومة. ماذا يريد أكثر؟ إذا كانت لديه مشكلة، فيمكنه أن يطرحها بوسائل مؤسساتية. ليس لدى الحزب أساس ما يستثمره. فالانتصار العسكري ليس انتصاراً وطنياً وأنا أصر على هذه النقطة. وهناك فرق بين هذا الانتصار وانتصار الـ2000 الوطني. أما بالنسبة إلى انتصار تموز، فهناك جدل كبير حوله...
أشم رائحة مشروع عبارة عن نسخة منقحة من الفدرالية بحدها الأدنى، وأكبر بحدها الأقصى. لكن الخطورة تكمن في أنها تربط لبنان بمنطقة فيها فالق زلزالي اسمها الشرق الأوسط. أؤكد ان لبنان يستحق فرصة العزل النسبي عن الشرق الأوسط... أعتقد ان الشعب اللبناني يجب أن يأخذ مسافة ولا يتلقى نتائج الخضّات الكبرى التي تنتجها الصراعات التي تدور بين المحور الأميركي والمحور السوري الإيراني، فليس لدينا «شغل» مع كليهما.
الارتداد الى الداخل بعد حرب تموز هو غلطة سياسية كبيرة تسجل على حزب الله. ويسجل في مقابلها الكفاءة العسكرية التي من المفترض استثمارها في اسرائيل. كيف؟ لا أدري. فهو لم يسمح بمشاركتي في التفكير. ولو تشاركنا، لتوصلنا الى حوار حقيقي.
ان لبنان يواجه مشروعين: مشروع استباحة الدولة ومشروع حماية الدولة. وأعتقد أنّ جزءاً كبيراً مرتبط بالمحكمة، وآخر مرتبط بالمصالح الكبرى في المنطقة، وأرفض ان أكون جزءاً من هذه المناطحات بين المحاور. هل يتمكّن أبناء المحور الآخر أن يقولوا الكلام نفسه؟ أشك في ذلك.
عبس
أما القيادي في التيار الوطني الحر زياد عبس فيبدأ من مقاربة مختلفة للنقاش بعد سنة من انتهاء الحرب: ماذا لو انتصرت إسرائيل في الحرب، ماذا ستكون نتائج هذا الانتصار على المستوى الداخلي، أين يمكن أن نكون وأين كنا سنصبح اليوم؟ حزب الله كان معتدى عليه في هذه الحرب. بلا شك، كانت هناك أهداف لبنانية في هذه الحرب، كان من الواضح أن هناك معادلة في الداخل وصلت الى درجة كبيرة من توازن القوى، وكان هناك مشروع يجري إعداده للمنطقة وبالتوازي للبنان.
ولكي ينجح هذا المشروع، كان لا بد من توازنات مختلفة، تعيد توجيه الدفة صوب قوى السلطة، إذ لم تتمكن هذه القوى من الحسم لمصلحتها سياسياً، وخاصة بعد تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر. فيوم التوقيع على التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر، فشلت محاولات محاصرة حزب الله على المستوى السياسي الداخلي تمهيداً للانقضاض عليه. وهذا ما يفسر النقمة الكبيرة (وكلمة نقمة هنا محاولة تلطيف للتعابير) من القوى الدولية المؤثرة على الداخل اللبناني وتحديداً الولايات المتحدة، على العماد ميشال عون والتيار الوطني.
خلال حرب تموز، جنّب التفاهم البلد حرباً أهلية بكل ما للكلمة من معنى. كان من الواضح لدى إسرائيل أن من غير الممكن القضاء على حزب الله عسكرياً، ولكن ما هو ممكن أن يتم توليد نقمة شعبية لبنانية ضد حزب الله نتيجة ردة الفعل الاسرائيلية على عملية اسر الجنود... وصولاً إلى الضغط على الحزب من أجل لجوئه إلى خيار استخدام سلاحه في الداخل للدفاع عن نفسه.
جاء التفاهم ليجنّب لبنان حرباً أهلية. فقد أمّن ظهر حزب الله، ومنع الفريق الذي كان يطمح بمزيد من الحصار على حزب الله من أن يتبنى مواقف متطرفة، علماً بأن مواقفه الضمنية كانت متطرفة. ونعلم جميعاً ما قاله العماد عون من أن الدول الداعمة لإسرائيل في الحرب بشكل لا محدود، هي نفسها الداعمة للحكومة بشكل لا محدود.
على مستوى المعارضة، ولنتحدث في إطار النقد الذاتي، بدأت المعارضة بارتكاب الأخطاء منذ 15 آب. فنظراً للانتصار الكبير الذي حققته المقاومة وأخطاء السلطة، كان على المعارضة ألا تهادن السلطة، وكان عليها الاستفادة من زخم هذا الانتصار والسعي لتحقيق توازنات مختلفة داخلياً. لكن المقاومة، لأسباب نفهمها لكن لا نؤيّدها، فضلت المهادنة. وكان أقطاب السلطة أنفسهم يتوقعون ردّة فعل مختلفة من المعارضة، لكن حزب الله سعى الى هدنة تخوفاً من الفتنة السنية ـــــ الشيعية.
أدّى ذلك، على المستوى السياسي الداخلي، إلى غياب أيّ تداعيات لحرب تموز. بمعنى آخر، استطاعت إسرائيل أن تمنع انتصار المقاومة داخلياً. هل استطاعت المعارضة أن تستغل هذا الانتصار لتسجل أهدافاً في مرمى الخصم؟ كلا. لقد امتنعت عن ذلك، وكان انتصارها احتوائياً للسلطة على المستوى السياسي الداخلي. وإذا نظرت اليوم الى المشهد السياسي الداخلي وكل حركة المعارضة فلن يمكنك أن ترى مشهد الحرب وانتصار المقاومة في خلفيته.
لم يحمل الانتصار العسكري انعكاساً لافتاً، ربما يمكن ذكر أنه سحب موضوع سلاح حزب الله من التداول. فقد استطاعت الحرب أن تقارب موضوع السلاح والاستراتيجية الدفاعية بطريقة أخرى، وأثبتت جدية خيار المقاومة وقدرتها على الانتصار بعد أن كان البعض يسخر من الأسلحة المستخدمة في المقاومة أو يعتبر أن السلاح والمقاومة لا يمكنهما مقارعة إسرائيل وهزيمتها.
كذلك كرّست الحرب تحالف حزب الله والتيار الوطني، وكانت تجربة عملية على قدرة التحالف على الصمود في أصعب الظروف. من السهل على فريقين أن يتّفقا على أمور ونقاط في وضع طبيعي، لكن من الصعب أن يصمد التفاهم في ظروف ضاغطة. لقد كرست الحرب هذه الثقة، وهذا لم يكن سهلاً عند جمهور الفريقين، وخصوصاً عند جمهورنا.
كذلك منعت الحرب السلطة من الانقضاض على المعارضة، لكنها لم تستطع أن تحول هذا الانتصار إلى مبادرة من أجل تحسين نقاطها وتسلّم زمام السلطة.
على مستوى فريق 14 آذار، كشفت هذه (الحرب) الخطّة التي كانت موضوعة من قبل. فقد كان هذا الفريق مقتنعاً بأنّ هذه الحرب ستؤدي إلى الانتصار الكامل لأقطابه. اضطرّ لإعادة النظر بكل هذا التوجه الذي يهدف إلى تسلّم كل مفاصل الحكم. أضف إلى ذلك أن عناوين الحوار وأولوياته تبدلت.
على مستوى الصراع الإسرائيلي اللبناني، لقد أهدرت السلطة مجموعة من الفرص لتكريس الحقوق اللبنانية، إن كان حق التعويض أو أي حق معنوي. وما زالت حتى الآن تكتفي ببضعة متطوّعين ينظفون الشاطئ من البقع النفطية، فيما يحمل كل أسبوع إصابات من جراء القنابل العنقودية. حين تكون في المعارضة، تستطيع أن تتكلّم وتعبّر وتعرض «ريبورتاجاً» وتناقش، لكن في النهاية، السلطة هي من يجب أن يأخذ الإجراءات.
هل المعارضة قادرة على أن تستفيد من زخم الانتصار؟ هذا غير متاح بصراحة، إلا إذا أردنا أن نفتح ملفات السلطة خلال الحرب وننتقل من محاولة احتواء الوضع الداخلي، إلى ما هو مختلف.