رنا حايكأما في أحيان أخرى، فقد خاطبهم الموظفون بنبرة الواعظ الذي يدعوهم إلى التعقل، أو المرحّب و«المساير» بشكل مبالغ به، يوحي بأنهم «أخدونا على قد عقلنا»، كما يقول نديم الشرتوني. فقد تفاجأ هذا الشاب الذي تقدم بطلب شطب خانة المذهب عن هويته من ثناء الموظفين على خطوته وتشجيعهم لها لدرجة أدرك معها «إنهن مش قابضينا جد»، تماماً كما شعرت ريما النجدي التي تؤكد اليوم أن «الاستهزاء والسخرية كانا باديين بوضوح على وجوه الموظفين».
أما قمة الارتباك، فقد لاقاها من قابل بعض مأموري النفوس طلباتهم بمحاولة إقناعهم بتبديل طوائفهم، لأنه إجراء أسهل وأكثر شيوعاً من شطب المذهب نهائياً!
لكن ارتباك الموظفين لم يكن دائماً على وتيرة واحدة، بل خفّ تدريجاً مع توافد المزيد من الطلبات، ومع إرفاقها تدريجاً بالمزيد من الاجتهادات القانونية التي لا تترك مجالاً سوى لقبولها. فبعدما تقدم عربي العندراي بطلبه قبل عامين أمام مديرية الأحوال الشخصية في بيروت و«ضحكوا عليي وكحشوني رافضين حتى قبول الطلب» كما يذكر، عاد وتقدم به بعد عام أمام المديرية ذاتها، بعدما أرفقه باستشارة قضاة وزارة العدل الموقعة من وزير الداخلية التي تؤكد حق مقدم الطلب الدستوري بشطب مذهبه عن الهوية. يومها، حوّله الموظفون إلى «الريسة» كما يسمونها، فاعتقد أنه بلغ أخيراً «سدرة المنتهى». لكن الارتباك كان ولا يزال سيد الموقف، إذ حوّلته «الريسة» إلى مأمور النفوس في بلدته الذي قبل طلبه ولكن لم يعرف كيف يتصرف به، فحوّله إلى مركز المحافظة. هناك، في المركز، كان على العنداري أن يعود ويشرح للموظف القضية برمّتها كلما زار المركز لمتابعتها، ما أفضى، بعد نقاشات طويلة مع الموظفين بشأن الحقوق المدنية المبدئية، ومحاولات دؤوبة في البحث والتمحيص عن خطأ إجرائي يشوب الملف، إلى تحويل طلبه إلى... مديرية الأحوال الشخصية في بيروت، وهو المكان الذي كان قد قدم الطلب إليه في الأساس ولا يزال ينتظر منه اتصالاً هاتفياً للمتابعة. خلال هذا الانتظار، صدر التعميم الأخير عن وزارة الداخلية، ما يستتبع إجراءات أقل تعقيداً يتحضّر اليوم للمباشرة بها.
وبينما ينتظر العنداري القيام بالإجراءات اللازمة لشطب مذهبه، توصل علي شريف إلى ممارسة حقه الدستوري، إذ قبل طلبه، فطار من السعادة، مباشرة نحو المختار للحصول على ورقة يرفقها بإفادة السكن للتقدم بطلب استصدار إخراج قيد جديد «بدون مذهب» أمام مديرية الأحوال الشخصية، لكنه فوجئ بالمختار يرفق رقم سجله بذكر طائفته!
أمام دهشة علي الشديدة واستنكاره، شرح له المختار أن النظام الإداري اللبناني «لا وجود فيه للسجلات المدنية، وبالتالي يقسّم رقم السجل الواحد على طوائف عدة، ليصبح الرقم 29 مع شيعي، أو 29 مع درزي، وإلا، تضيع الأسماء وتختلط». هنا، خف قليلاً بريق السعادة، وأدرك علي أن ما حقّقته الحملة وتعميم الداخلية هو طفرة نوعية في غاية الأهمية، لكنها ليست سوى خطوة أولى يجب أن تستكمل إلى حين تقويم نظام يتغلغل التصنيف المذهبي في عمق تركيبته.