بعد عشرة أيام على افتتاح معبر جسر قمار على الحدود السورية في منطقة وادي خالد أمام المشاة فقط، سمح للسيارات السياحية أخيراً بالانتقال عبره. ولكن يبدو أن فائدة فتح معبر إضافي بين دولتين، تنحصر بسكان القرى والبلدات المنتشرة على طول الحدود، ولو أن هؤلاء، وخصوصاً من رفضوا التحدث بأسمائهم، يرون في شرعنة المعبر انعكاساً سيئاً على حياة يومية كانت تجري بين أهالي حدود البلدين بيسر أكبر
عكار ـ روبير عبد الله
معبر جسر قمار مع الحدود السورية هو الثالث شمالاً بعد العريضة والعبودية. ولأنه الثالث من حيث افتتاحه، ومن حيث تراتبية فائدته لكونه الأبعد، يستمر المعبران الآخران: العريضة والعبودية بأداء الدور الأساسي في حركة انتقال الأشخاص والبضائع، بحكم وقوعهما على مسافة أقرب إلى معظم القرى والبلدات العكارية. من هنا أيضاً كان اقتصار حركة المرور عبر جسر قمار على السيارات السياحية دون شقيقاتها التي تنقل البضائع، فضلاً عن أن الوصول إلى المعبر الأخير يقتضي تجاوز هضاب ومرتفعات، فيما الطريق إلى العبودية والعريضة تمر سهلاً بمحاذاة البحر.
أما وقد فتح المعبر رسمياً، فقد تباينت آراء الناس بشأن فائدته، على خلفية الظروف المعيشية لأبناء المناطق القريبة من الحدود. فهناك مواطنون أمثال مرعي أحمد من قرية الهيشة، الذي يبتاع معظم حاجاته المنزلية من داخل سوريا، حيث أسعار الخضار والفواكه أرخص من لبنان. وبما أن كلفة الطبابة هناك متدنية جداً، فبإمكان الإنسان دخول المستشفى من دون دفع تأمين على الصندوق، والمشفى الوطني في حمص هو شبه مجاني، بما فيه من صور وتحاليل وعمليات جراحية. أما طلال العكاري من بلدة المقيبلة، فله أقرباء في الحميدية غربي حمص، لذا صار بإمكانه زيارتهم بسهولة أكبر، وهذا ما يعمّق في رأيه صلات القربى بين المواطنين في سوريا ولبنان. أما سائق الفان خالد حسامي من البلدة نفسها، فهو لا يرى في مجال عمله تغيّراً يذكر قد يكون افتتاح المعبر تسبب به، ذلك أنه لا يسمح للفانات السورية بالعمل في لبنان لأنها «تعمل على البنزين» ما يمنعها من منافسة الفانات اللبنانية.
لكن أحمد قاسم الفهيم، صاحب محل سمانة في البقيعة، لاحظ انخفاضاً في عدد المشاة العابرين بين الجهتين بعد فتح المعبر، وقد أرجع ذلك إلى وجود مشاكل أمنية بالنسبة إلى البعض بفعل تراكمات ترتبط بالتهريب أو خلاف ذلك. أحمد الفهيم يضع في محله الكثير من البضائع السورية وخصوصاً المنظفات. لكن فتح المعبر أوجد له عملاً جديداً، فقد وضع لافتة أمام محله وعليها اسم شركة تأمين سيارات. ذلك أن تأمين السيارات من خلال شركات معترف بها في سوريا، شرط ضروري للسماح للسيارات بالعبور، وهي بالمناسبة الكلفة الوحيدة التي يتكبدها المواطن اللبناني إذا شاء إدخال سيارته إلى الأراضي السورية. وفي بلدة مشتى حمود، على بعد كيلومترات قليلة من الحدود، يختصر المزارع محمود العساف إيجابيات فتح المعبر بالبعد القانوني للعبور والحركة داخل سوريا، لكنه يرى أن فتح المعبر يعجل في تدمير الزراعة اللبنانية. فهو يملك عشرين دونماً من الأراضي المرويّة، ومع ذلك يتوقف أحياناً عن الزراعة حتى بغرض الاستهلاك العائلي، لأن أسعار المنتجات الزراعية السورية أقل من كلفة الإنتاج في لبنان. ومحمود عساف لا تعنيه الطبابة في سوريا بسبب «الثقة العمياء بالطب في لبنان». وبعيداً عن الحدود يملك سليم فارس في القبيات محلاً تجارياً معظم بضائعه سوريّة. سليم يعمل في بيع المنتجات السورية منذ تسع سنوات. في رأيه ثمانون في المئة من المنتجات السورية تتساوى من حيث الجودة مع منتجات سائر البلدان، لكن الأسعار أدنى بكثير، فعلى سبيل المثال سعر عبوة شامبو حجم 400 ملليتر في لبنان يساوي سعر عبوة من ألفي ملليتر في سوريا. ويضيف سليم إن أسعار مواد التنظيف في لبنان هي الأغلى في العالم.
وبما أن ما يقال في هذه البلاد لا علاقة له أحياناً بما يقوله الناس في السر، فقد كانت حصيلتنا أعلاه من الأشخاص الذين شاؤوا الإفصاح عما يعني بالنسبة إليهم افتتاح المعبر بأسمائهم. لكن الأشخاص الذين لم يبوحوا بأسمائهم فأفصحوا عن تفاصيل أكثر دلالة بشأن حركة العبور. فالعامل السوري غير معني بالمعابر القانونية والشرعية التي تكلّفه يومياً خمسمئة ليرة سورية عند الأمن العام السوري، وهو ما يتجاوز نصف أجره اليومي. كما أن رب الأسرة اللبناني الفقير غير معني بالمرور السياحي، وقد صرّح أحدهم بأنه يذهب مرة أو مرتين في الشهر لجلب حاجيات منزله بالجملة، وهو سيضطر من الآن فصاعداً، إلى سلوك المعابر غير الشرعية لتجنب دفع كلفة الجمرك التي يعود لرجال الجمارك تقديرها. والأكثر من ذلك حركة الشاحنات الصغيرة التي تنقل البضائع «المهربة» التي كانت ولا تزال مستمرة على الرغم من افتتاح المعبر رسمياً. ومعلوم أن وعود إنماء المناطق الحدودية ظلت حبراً على ورق، ما يدفع الناس إلى المجازفة بأعمال «التهريب» المحفوفة بالمخاطر لكي يتمكّنوا من النهوض بأعباء الحياة. بل إن المزارعين في سهل البقيعة الغني بتربته ينتقلون إلى زراعة القمح ليس بغرض تلبية الحاجات المحلية، بل لإمكان بيعه في سوريا، حيث القمح مدعوم من الدولة هناك، وهذا ما يطرح مرة أخرى دور الدولة اللبنانية في توفير الدعم اللازم للمناطق انطلاقاً مما تزخر به تلك المناطق من مقومات خاصة بها.
تفاوت تأثير فتح معبر جسر قمار بالنسبة إلى قرابة السبعين ألفاً من سكان القرى العكارية القريبة من تلك النقطة الحدودية. فمن ناحية، يبدو أن المعنيين بالمستوى الاقتصادي والمعيشي من تجار ومواطنين غير مكترثين كثيراً للأمر، إذ قاموا بما يشبه «إعادة الانتشار» منذ أن دخلت القوة الأمنية المشتركة لضبط الحدود على الخط، فاستأنف التجار نشاطهم واستمر المواطنون في إحضار حوائجهم عبر الحدود. لكن من ناحية أخرى، ثمة فئات أخرى، وهي تضم موظفين ومهنيين وطلاباً وعائلات منتشرة على جانبي الحدود، سوف يمثّل السماح بمرور السيارات مناسبة تعيد الحرارة إلى حركة، لم تنقطع في الأساس، لكنها كانت تواجه صعوبة عبور النهر الكبير الجنوبي سيراً على الأقدام.