قليلون في مخيم عين الحلوة لا يعرفون جرّاح العظم الدكتور عامر السمّاك، هم الذين يوقفونه عشرات المرات يومياً لسؤاله عن أوجاعهم. على هذا الأساس نذهب للقائه، فنكتشف أن للرجل قصة أكثر إثارة، وهو الفلسطيني الذي غادر غزة للدراسة قبل أكثر من ثلاثة عقود ولم يعد إليها حتى اليوم
مهى زراقط
كعادته تأخر الطفل عامر السمّاك عن موعد المدرسة. أوقفه الناظر مع بقية المتأخرين في طابور، وطلب منهم مدّ أيديهم ليضربهم بالمسطرة. كلّهم كانوا يبكون ويحلفون إنها ستكون آخر مرة يتأخرون فيها، إلا هو. قال له الناظر: احكِ شيئاً، فأجابه: لا شيء أقوله، فهذه لن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة. أنا أعمل مع أبي في الدكان، أقلي الفلافل وألفّها سندويشات لتلاميذ المدرسة، لذلك سأصل متأخراً دائماً، ولا أملك حلاً آخر.
لا يقول عامر إن كان الناظر استمرّ في ضربه أو لا، فما قصده من سرد هذه القصة الإشارة إلى أمرين: الأول أنه لم يعش طفولته كما غيره، والثاني أنه منذ طفولته كان يفتقر إلى الوقت. «طول عمري ما عنديش وقت»، يقول. على الرغم من ذلك يجد لنا وقتاً ليخبرنا عن حياته الصاخبة. في غرفته في مستشفى بيت النداء الإنساني في مخيم عين الحلوة، يستغلّ جرّاح العظم صلاة الجمعة التي يخفّ خلالها الازدحام، يطلب القهوة ثم الشاي، ويروح يحكي حديثاً سيمتدّ لساعات. يغرق في التفاصيل، فلا ينسى التواريخ، وخصوصاً أن المحطات الرئيسية في حياته ارتبطت بأحداث سياسية كان لها أثرها المباشر عليه.
قبل ثلاثة أيام من اندلاع حرب أكتوبر 73، وصل السمّاك إلى مصر لدراسة الطب في جامعة الإسكندرية. يصف هذا الخيار برؤية والده البعيدة لمستقبل الحياة في غزة «صحيح أن أبي كان يحب العلم والمعرفة، ونحن كنا متفوقين، لكني أعتقد أنه كان يتخوّف من انفتاح الفلسطينيين على سوق العمل في إسرائيل، فاتخذ قراره باكراً، وكانت الدراسة في الخارج أفضل الوسائل لإبعادنا عن هذا المصير». لم يكن القرار سهلاً على الوالد، الذي احتاج إلى راتب ابنته الكبرى لكي يستطيع مشاركة أحدهم في شراء دكان سمّاه «بقالة الوحدة» تيمّناً بالوحدة التي قامت بين مصر وسوريا آنذاك.
سُجن في العراق بتهمة العمل على تأسيس حزب شيوعي عربي موحد

اختار عين الحلوة لأنه كان «القلعة الصامدة» خلال حرب المخيمات
بعد عام واحد، انتسب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي عام 1975، ترشح لانتخابات الطلاب وفاز مع عدد كبير من زملائه الفلسطينيين في الهيئة الطلابية الطبية، فمارسوا عملهم أكاديمياً إلى جانب السياسة. لكن في الأشهر الأخيرة التي سبقت زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس، خضعوا ـــــ كما معظم الطلاب الفلسطينيين ـــــ لإقامات جبرية، قبل أن يصدر قرار ترحيلهم بعد سلسلة تظاهرات نظموها احتجاجاً على الزيارة. سبق الترحيل توقيف الطلاب لمدة شهر ونصف شهر، تنقلوا خلاله في أكثر من سجن تمهيداً لترحيلهم إلى العراق.
هناك، انتسب إلى جامعة الموصل، كلية الطب، وواصل نشاطه السياسي، لكنّ اختلافاً كبيراً في الممارسة برز بين مصر والعراق. «في مصر كان النقاش السياسي أمراً عادياً. حتى إني خضته مرة مع مدير الاستخبارات الذي حاورني بوصفه طرفاً، لا محققاً. أما في الموصل، فكان النقاش مستحيلاً في ظلّ عملية «التبعيث» السائدة هناك».
على الرغم من ذلك، كان الفلسطينيون يحظون بحرية نسبية، جعلت الشيوعيين العراقيين يجدون متنفّساً لهم بينهم. حماية لم تدم طويلاً، فقد تضافرت عوامل عدة لتجعل السمّاك «عنصراً خطراً مطلوباً القبض عليه»، كما قرأ بنفسه في لوائح أرسلتها الاستخبارات العراقية إلى مكتب منظمة التحرير في العراق. «كنا أصدقاء مع الشيوعيين، تورطنا في دعم القضية الكردية، واندلعت الثورة الإيرانية. لوحقت بسبب هذه الأسباب مجتمعة، لكن حين أُلقي القبض عليّ كانت التهمة الرسمية التي وجهت إليّ: العمل لتأسيس حزب شيوعي عربي موحد».
جاء القبض عليه، بعد قرار إقفال مكتبَي الجبهة الديموقراطية والشعبية في العراق في نيسان 1980. ولأنه كان قد أنهى دراسته ونجح في الامتحانات، سارع إلى طلب شهاداته من رئاسة الجامعة مباشرة، متحججاً بقرب انتهاء صلاحية جواز سفره والتصريح الذي يسمح له بالعودة إلى غزة. وفور حصوله على الشهادة، أرسلها إلى شقيقته في الإمارات ليتحوّل إلى مطارَد من رجال الاستخبارات، في انتظار طريقة تخرجه من العراق.
في هذا الوقت، سمع أن والده قدم إلى بغداد للبحث عنه بعدما وصلته أخبار أنه استُشهد في الحرب الإيرانية العراقية. بحث عنه والتقاه، لتكون هذه المرة الأولى التي يلتقيان فيها منذ مغادرته غزة... بعد سفر والده ذهب إلى الجامعة في الموصل ليطّلع على بريده، فأُلقي القبض عليه. وكما في مصر، تنقل السمّاك في سجون كثيرة في العراق، قبل أن يصل إلى سجن بغداد، حيث صدر قرار إبعاده من العراق إلى سوريا. لكنّ الغريب أن العراقيين طلبوا منه «التسلّل» بنفسه إلى سوريا. وهذا ما جرى.
عندما وصل السمّاك إلى مركز الأمن السوري، طُلِب منه العودة من حيث أتى. لكنه رفض وطلب أن يُسجن. بعد مباحثات طويلة، والخضوع لتحقيق قاسٍ أجراه معه الأمن السياسي، دار السمّاك مجدداً في مختلف السجون السورية ليصل في ختامها إلى مكتب فلسطين في دمشق. هناك شعر بأنّ الفرج قد حان، وخصوصاً أن أحد السجناء أخبره أنه سيخرج خلال أيام فطلب منه تبليغ الجبهة الشعبية في دمشق بوجوده.
بعد أربعة أيام أُفرج عنه، مع شرط مغادرته سوريا. فقصد لبنان الذي كان يشهد عمليات للفدائيين الفلسطينيين. عمل في مستوصف طبي في منطقة كامد اللوز، وبقي فيه حتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. الهزيمة جعلته يعيد التفكير في حياته، ويخلص إلى حاجته إلى المزيد من العلم، فوافق على ما كان رفضه لسنوات بحجة النضال: القبول بمنحة دراسات عليا إلى بلغاريا حيث تخصّص في جراحة العظم.
في عام 1986 عاد إلى سوريا. كانت حرب المخيمات مندلعة في لبنان، ما جعله يختار التوجه إلى «القلعة الصامدة» آنذاك، أي مخيم عين الحلوة. ومنذ ذلك الوقت بدأ عمله في بيت النداء الإنساني، الذي كان مستوصفاً صغيراً قبل أن يصبح المستشفى الوحيد في المخيم. يعدّ عمله فيه أهم ما يقوم به، واضعاً عضويته بوصفه قيادياً في الجبهة الشعبية في مرتبة ثانية. فهو ناقد لاذع للعمل الحزبي الفلسطيني، وتمسكه بـ«التنظيم» عاطفي لأنه يمثّل عائلته، «والانتماء إلى التنظيم بالنسبة إلى الفلسطيني يشبه الانتماء الطائفي بالنسبة إلى اللبناني». طبعاً، هذا لا يلغي تمسكه بمبادئ الجبهة الشعبية وأفكارها «هي التي تحقق طموحي، لكن بعد كلّ هذه السنوات، بتّ أعتقد أن ما هو أهم من الأفكار، العمل الجاد لتحقيقها، مهما كانت».


لقاءان في 36 عاماً

منذ مغادرة غزة لم يلتق عامر السماك بأفراد عائلته مجتمعين. بعد لقائه والده في العراق عام 1980، التقى بأمه في الأردن عام 1994. آنذاك كان قد قرر العودة إلى غزة، لكن السلطات الإسرائيلية رفضت إدخاله، فبقي في الأردن. ولم يرهم مجدداً إلا عام 2001 عندما زار الأردن مجدداً للاطمئنان إلى صحة شقيقه الذي كان يخضع لعملية جراحية قبل وفاته