جوزف سماحة
مرّ يوم 22 آب على خير. بات في وسعنا، مع انقضاء الزمن، التأكد من ذلك. لم يحصل شيء خطير في المنطقة. لم يحصل شيء خطير ضدّ إسرائيل. كانت هي المستمرّة في فرض الحصار على لبنان وفي التنكيل بالفلسطينيين. أما في العراق فكانت تتواصل العمليات العبثية في جانب منها والوطنية في جانب آخر.
السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي كان يجب أن يقع في 22 آب حتى بات في الإمكان، اليوم، الجزم بأنه لم يقع.
يحيلنا السؤال السابق إلى «طرفة» كان يمكنها أن تثير السخرية لولا أن هناك من يصدّقها فعلاً. ففي الثامن من آب نشرت صفحة الرأي في «وول ستريت جورنال» مقالاً للمستشرق برنارد لويس حذّر فيه من 22 آب. أجرى الرجل التسعيني حسابات غير معقدة كثيراً قادته إلى ملاحظة أن ذلك اليوم هو يوم الإسراء. ربط بين ذلك والمفاوضات الجارية في شأن الملف النووي الإيراني والتأخير المتعمّد من جانب طهران لتقديم جوابها، واستنتج أن محمود أحمدي نجاد قد يشن في 22 آب هجوماً صاعقاً ومفاجئاً على إسرائيل. لم يجزم في الأمر تماماً وإنما دعا إلى وضع ذلك في الاعتبار على طريقة «لقد أعذر من أنذر».
ليس برنارد لويس ميشال حايك آخر. لو كان كذلك لكان التندّر يكفي. كلّا. لويس هو أحد «كبار» المستشرقين في العالم. وهو يزداد صهيونية مع تقدمه في العمر. ثم إنّه مسموع الكلمة في البيت الأبيض. وهو شديد النفوذ في أوساط «المحافظين الجدد» الذين بالغوا في الاعتماد على كتاباته «الموسوعية» من أجل تأصيل السياسات الأميركية التي يدعون إليها في الشرق الأوسط. وتكفي، تدليلاً على مكانته، الإشارة إلى أنه صاحب الدور الأكبر في صياغة المفاهيم التي تعتمدها الإدارة الحالية في حربها الكونية على «الإرهاب» و«الإسلام الفاشي». إنه، بمعنى ما، جورج كينان المرحلة الجديدة.
يستخفّ لويس بموقع القضية الفلسطينية كدافع لكراهية السياسة الخارجية لواشنطن. ولا يقيم اعتباراً للعوامل الاقتصادية والاجتماعية. ويقفز فوق التاريخ الاستعماري كله. ففي رأيه، تقريباً، أن العرب والمسلمين يكرهون الحضارة الغربية لأنهم عرب ومسلمون. ثمة جرثومة فتكت بهم جعلتهم يُحمّلون الآخر عبء التخلّف الذي سبّبوه لأنفسهم. إنهم، ثقافياً، مصدر خطر ولا بدّ من مواجهتهم وخوض حروب عسكرية ــ أيديولوجية ضدهم إلى أن يقضي الله أمراً. ويدرك كل من يتابع الكتابات الأخيرة للويس مدى تأثر جورج بوش، وطوني بلير إلى حد ما، بها. كما يدرك أن هذه الكتابات تحوّلت، بعد تدويرها، إلى الأساس النظري للعقائد الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط الكبير»، وأنها تخترق، عملياً، معظم، إن لم يكن كل، الوثائق الرسمية التي تُعرف بهذه الاستراتيجية.
ما قاله لويس ليس تخريفاً. إن ما قصد إليه هو أن حكّام طهران «رؤيويون» وأنهم لا يجرون حسابات، ولا يهتمّون لموازين القوى، ولا يخشون إفناء الفلسطينيين في معرض حربهم مع إسرائيل، ولا يتردّدون في تقديم الإيرانيين جميعاً قرباناً لإنجاز هذا الواجب المقدس. بكلام آخر، يرى لويس إلى القيادة الإيرانية بصفتها سائقاً يقود سيارة مفخخة ينوي تنفيذ عملية انتحارية بها وبركابها البالغ عددهم... سبعين مليون إيراني!
ربما كان على القارئ أن يكتم ضحكته. فما تقدم هو، في الجوهر، الذريعة الرسمية الأميركية لتبرير سياستها في الحرب الكونية على الإرهاب. إنها ذريعة تقول إن «الردع» لم يعد نافعاً وإن الحروب الاستباقية مبرّرة.
قد لا تكون وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بعيدة عن هذه الأطروحة. إلا أنّها، كباحثة متخصّصة في الاتحاد السوفياتي السابق، تضيف عنصراً جديداً ومهمّاً للدعوة إلى التخلّص من أسر استخدام الردع. ففي رأيها أن «الردع» كان نافعاً مع الاتحاد السوفياتي لأنّه قوة نووية، ولأنه موجود في قلب أوروبا، ولأن أي حرب ضدّه تقود، حكماً، إلى «الدمار الشامل المتبادل». تضيف رايس في مقابلة لها مع «وول ستريت جورنال» (25 من الشهر الماضي)، أي مع الصحيفة التي نشرت مقال لويس، أن البرنامج النووي الإيراني ما زال في مرحلة الطفولة، ولذلك فإن إمكان وقفه متاح. ويعني ذلك أنّ ما قد يقود إلى مواجهة مع إيران هو عكس السبب المعلن: سبب المواجهة هو عدم امتلاك إيران، حالياً، القدرة على الردع النووي (عكس كوريا مثلاً).
هذا التقدير للخطر الإيراني كان خاصّاً بدول غربية وبإسرائيل. كانت دول عربية تشارك فيه من غير أن تقطع نقطة اللاعودة ومن غير أن تتخلّى نهائياً عن الخطاب الدعاوي الذي يشير إلى وجود مخاطر من جانب إسرائيل. يبدو أن هذا التحفّظ سقط أو هو في طريقه إلى السقوط. لماذا؟ لأن «حرب الصيف» في لبنان أظهرت قدرة على المقاومة دفعت «المعتدلين العرب» إلى تحديد إيران لا إسرائيل بصفتها مصدر التهديد، وإلى تحديد الصمود لا العدوان بصفته الإشارة البارزة إلى جدية التهديد.
إن هذا هو الإطار العام الذي يتحكّم بجولة رايس الحالية في المنطقة، وبسعيها إلى إنشاء ما يسمّى «حلف المعتدلين».
بكلام آخر، تسعى رايس إلى تحقيق «حلم أميركي» راود حكام واشنطن منذ الخمسينيات. إنه الحلم القائل بضرورة قيام حلف يضمّ دولاً غربية وعربية إلى جانب إسرائيل ضد العدو... السوفياتي. مضت أيام وليالٍ لكنّ الحلم باقٍ. نستطيع أن نحذف «الاتحاد السوفياتي» ونضع «حلف المتطرفين» لنكون أمام الاستراتيجية نفسها.
غير أن الجديد فعلاً هو أن منطق «الحرب الباردة» لا يسحب نفسه على الوضع الحالي. ففي تلك الأيام كان الخوف من «الدمار الشامل المتبادل» يرغم على التفكير غير مرة. أما حالياً فلا وجود لهذا القلق، ولذلك يمكن إطلاق العنان للقوة والعنف ويمكن الرهان على أنّ ما لم يتحقق سوى جزئياً قبل عقود قابل لأن يتحقق في هذه الأيام.
إن بناء «حلف المعتدلين» يعني بناء منظومة إقليمية متكاملة ذات أبعاد سياسية وأمنية، وذات ترتيب خاص للأولويات، ولمعسكرَي الخصوم والأصدقاء. إنه حلف يعني تنظيم حروب أهلية عربية وإسلامية لا تنتهي. إن هذا ما تنوي رايس وضع الحجر الأساس له في لبنان وفلسطين، وفي امتداد ما هو حاصل في العراق.
يبقى هذا التقدير ميالاً إلى أن يكون صائباً حتى لو تمّ التوصل مع إيران إلى توافق مرحلي على البرنامج النووي.