جوزف سماحة
تعبير «حرب أهلية» لا يحيط بتعقيد الوضع في العراق. إلا أن هذا التعبير يصف عناصر أساسية في النزاع العراقي. لقد توصّلت أجهزة الاستخبارات الأميركية مجتمعة إلى هذا التقدير وضمّنته تقريرها الأخير. يتحدث التقرير، أيضاً، عن التأثيرات المتبادلة بين العراق وجيرانه. ويشير إلى صعود الاستقطاب السنّي ـــ الشيعي في المنطقة ويحذّر من وجود احتمال جدّي لتحوّل «التدهور التدريجي» إلى «انهيار سريع» مع ما لكل ذلك من نتائج خطيرة على الصعد الإنسانية والسياسية والأمنية. يخالف التقرير الخطاب الرسمي الذي تعتمده الإدارة، إلا أنه يخدمها في محاولتها الإيحاء بأن في الإمكان تدارك الموقف عراقياً وإقليمياً.
دراسة أخرى صادرة، في الوقت نفسه تقريباً، عن «مركز صبّان» (معهد بروكينغز) تذهب مذهباً آخر في استنتاجها. واضعا الدراسة، دانيال بايمان وكينيث بولاك (كانا من دعاة الحرب قبل أن يتحوّلا، وخاصة الثاني، إلى انتقاد إدارتها) يخلصان إلى نتيجة حاسمة: لقد بات على الولايات المتحدة أن تبحث عن أفضل طريقة لخسارة الحرب الأهلية في العراق. يعني ذلك أنها «حرب أهلية»، وأن أميركا خاسرة، وأن من واجباتها وضع الخطة المثلى لتطويق الآثار الإقليمية الكارثية لهذه الخسارة. يطالبان الولايات المتحدة بأن تكفّ عن «ممارسة العنجهية في وجه التاريخ».
الهدف الجديد لواشنطن، حسب بايمان وبولاك، منع الحرب الأهلية من التمدّد، لأن لأي حرب أهلية نتائج خطيرة على محيطها ناجمة عن ستّة عوامل: اللجوء الاضطراري للسكان، الإرهاب، تجذّر الشعوب المجاورة، تعزّز النزعات الانفصالية، تكبّد خسائر اقتصادية، استدراج تدخّل الجيران. لقد توصّلا إلى هذه النتيجة عبر دراسة، قابلة للنقاش، لعدد من الحروب الأهلية بينها التي عاشها لبنان.
يقترحان مجموعة علاجات من أجل تحديد الخسائر: عدم اختبار طرف في المواجهة الداخلية. تجنّب الدعم الفعّال لتقسيم العراق... مؤقتاً. عدم نقل المشكلة إلى الأمم المتحدة. دعم جيران العراق أو بعضهم. تشجيع الاستقرار الإقليمي (سنعود إلى هذه النقطة). ردع التدخلات الخارجية. رسم خطوط حمراء لإيران. إنشاء مجموعة اتصال. الاستعداد لاضطراب الإمداد النفطي. مداراة الأكراد واحتواؤهم. ضرب قواعد الإرهاب. دراسة احتمال إقامة مناطق آمنة عند الحدود العراقية.
في ما يخصّ «تشجيع الاستقرار الإقليمي» يشير الباحثان إلى لبنان وفلسطين اللذين يمكنهما «تعظيم الصدمة الناجمة عن التدهور العراقي». لا بد، والحالة هذه، من العمل على تسوية النزاع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي ولكن من دون الضغط على إسرائيل (كيف؟) ولا بد من بناء حكومة لبنانية مستقرّة جاذبة لجمهور «حزب الله» وفك الارتباط بين المساعدات إلى هذه الحكومة وتجريد «الحزب» من السلاح.
إن القصد من الإشارة إلى التقرير الاستخباري وإلى دراسة «صبّان» هو التركيز على أن هناك من يلاحظ البديهية القائلة بأن الأوضاع في هذه المنطقة مترابطة، وبأن الأزمات متداخلة، وبأنه لا مجال لسياسة أميركية حيال عنوان محدّد من دون أن تكون مندرجة في سياق سياسة إقليمية عامّة. هذا أولاً. ثانياً، ثمة إدراك أميركي متنامٍ أن العواصف التي تهبّ من العراق على المنطقة، ومنها لبنان، لا تحمل الديموقراطية بل تحمل مخاطر الفوضى والحرب الأهلية والتنابذ الطائفي والمذهبي.
يقود ذلك إلى القول إنه لا مجال لسياسة في لبنان لا تأخذ هذه المعطيات بالاعتبار ولا تبني عليها ولا تقترح على البلد مكاناً له فيها.
غير أن المتابع للسجالات اللبنانية التي زادتها الأزمة احتداماً يلاحظ الافتقار الجدّي إلى استبطان هذا البعد. ومع أن التراشق بالاتهامات يستخدم التحاق أطراف لبنانية بمحاور خارجية فإنه يبقى في حدود إطلاق الشتيمة وليس دائماً في إطار التحليل الذي يقود إلى استنتاجات. ومع أن الأزمة اللبنانية ذات بعدين إقليمي ودولي مؤكدين، فإن التعاطي معها، من جانب المعنيين بها، لا يخلو من وعي ريفي و«بلدي».
يجب أن ندرك أن اللبنانيين يعيشون رهاب «الحرب الأهلية». إنه رهاب ضاغط عليهم إلى أبعد حدّ ويدفع الكثيرين منهم، عن حق، إلى التمسّك بأولوية الأمن الشخصي، وإلى الخوف من الخرائط الجديدة المجهولة للانقسامات. يصعب، في هذا الجو، إبداء الاهتمام الكافي بتفاصيل خطة الإصلاح الاقتصادية، كما تصعب ممارسة ترف وضع الأزمة في سياقات إقليمية ودولية. اللبناني «كائن أمني» هذه الأيام (و«كائن مذهبي») يطلّ على المشهد العام من التفاصيل المؤلمة والمرعبة لحياته اليومية.
لا شك في أن هذا الواقع يضفي صعوبة على تلقّي أي «تحليل بارد»، فكيف إذا أضفنا إليه أننا لا نملك تراثاً جدياً في مجال الإطلالة على المشهدين الإقليمي والدولي برغم ما يكثر ترداده عن «حروب الآخرين»؟ ثمّة ميل إلى فهم الخارج بأدوات تحليلية مستقاة من «اللعبة السياسية الداخلية».
لا يجوز لما سبق أن يمنع من طرح السؤال التالي: هل يمكن امتلاك تقدير للسياسات الواجب اتّباعها في لبنان بمعزل عن تقدير للسياسات الدولية في المنطقة وتأثيراتها على الإقليم، والأزمات المفتوحة من العراق إلى فلسطين، والمآلات المتّجهة إليها؟
هناك، مثلاً، من يدعو، ملخّصاً، إلى تحييد لبنان. لكنه لا يجيب إطلاقاً عن احتمال ذلك في ظل «فيضان» النزاع العراقي خارج حدوده وتجذّر المواجهة في فلسطين. وهناك من يرفع، كاذباً، شعار التحييد حتى لا يضبط متلبّساً بالتقاطع بين ما يدعو إليه وبين الاحتلالين الأميركي للعراق والإسرائيلي لفلسطين. وهناك من «يخترع» سياسات تلفيقية تجعل «ثورة الأرز» عنصر رفد للنضال الفلسطيني، أو تميّز بين «الشرّ» الأميركي في العراق والخير الأميركي في لبنان، وهناك من يذهب أبعد من ذلك من أجل إراحة نفسه فيجد في ما يحدث تجلّياً لتواطؤ أميركي ـــ إيراني.
إن انهيار الدولة المركزية في العراق لا يمكنه أن يكون حدثاً عابراً في لبنان، فكيف إذا اندفع الوضع نحو حرب أهلية مفتوحة. لا يمكن المرء أن يكون سياسياً جدّياً في الولايات المتحدة من دون أن يقيم ربطاً بين هذه الملفات. ولكن في وسعه، بسهولة، أن يكون سياسياً لبنانياً نافذاً.
وإذا حاكمنا توجّهات لبنانية في ضوء ما يقترحه بايمان وبولاك من أجل تطويق الآثار السلبية للتدهور في العراق فماذا نجد؟ نجد، أولاً، أن واشنطن تقدم تماماً على عكس ما هو مطلوب منها. ونجد، ثانياً، أن هناك من يعمل لجعل لبنان محطة استقبال جاهزة لتلقّي هذه الآثار السلبية، لا بل للتحوّل إلى منصّة يمكن لسياسات تدميرية أن تنطلق منها نحو سوريا وغيرها.
هل في الإمكان عقلنة السجالات اللبنانية؟ أي، بكلام آخر، هل في الإمكان الاستمرار في الاختلاف، لكن على «قاعدة بيانات» واضحة؟