خلف أحمد الحبتوركنّا على ارتفاع عشرات آلاف الأقدام، ربما عندما صدح صوت فيروز، مغنياً لبنان وجباله، سهوله ووهاده، صيفه العذب، وشتاءه الدافئ، وجسور اللوز والصنوبر، بياض الثلج، وحكايات العذارى، والعشق الهارب في زواريب «الضيعة» من كيد عزول، أو صرامة متابع، أو عيون واشٍ، أو حاسدٍ إذا بغى...
الطائرة تتهادى بنا بانسياب في الطريق من دبي إلى بيروت، وفيروز وقد تجلّت كالعادة، تعبر بنا عوالم وعوالم، وتقطع بنا المسافات، عبر الغيوم المسافرة، عبر الضوء، عبر الحلم، عبر الذاكرة المشتاقة.
فيروز تسافر بنا، وتقلّنا إلى هناك، إلى المطارح القديمة، حيث نسينا جرائدنا، وحيث التحفنا السماء، وتعطّرنا بماء الينابيع، حيث مشينا، وجلسنا، إلى فيء الكروم، ورحاب العرائش...
فيروز... ماذا تفعلين بأحباء لبنان، لماذا تحوّلين حبهم إلى شجن، وعشقهم إلى عناق روحي وشوقهم إلى معاناة آلام الفراق القسري والهجرة الملزمة...
عائلتي وأنا، وبعض أصدقاء كنّا نبحر عبر فيروز إلى لبنان ونحن من عل... في أجواء صافية ومشمسة، والوجهة بيروت، حيث مضى علينا وفي الحساب الزمني ما يقارب الأشهر العشرة في بعاد لا إرادي. إلا أنه في الحسابات الروحية، عمر مديد، قد لا يُقاس، وقد لا يُحتمل، عمر مترع بالخوف على لبنان، وممضّ في الخشية على باب الخلد، وبوابة الجنة كما يطيب لي أن أردد هذه العبارة المحببة تيمناً بوصف أحد الشعراء الكبار للبنان.
اختلط الأمر علينا، وكنا نكبت شوقنا وحنيننا إلى لبنان، وكل منّا يحاول أن يتواطأ بما لا ينبئ بما في داخله من شوق ومن وجد. فقد آلمنا فراق لبنان، وكنا نكابر بإخفاء تهجّدنا حتى لا يفيض بنا الحنين بما لا عادة لنا به من احتفائية ووجل.
كنا نكتم الخوف على لبنان لتأكيد أن هذا البلد سيقوم، وينبعث من جديد، وسيبقى وسينتصر على نفسه وأعدائه.
اختلط الأمر علينا، ولم نعد ندري. كنا كالمسحورين، هل نسافر عبر فيروز، أم عبر أثير شوقنا، أو ترددات قلوبنا وخفقاتها، أم عبر همسات الروح التي تلهج بالحب الكبير لهذا البلد الصغير؟
هذا التوصيف للبنان بهذا البلد الصغير قد لا يكون دقيقاً، فلبنان بنظري لم يكن صغيراً ولا للحظة، إنه أكثر من «كم أرزة عاجقين الكون» وأكبر من مساحته الجغرافية، لبنان هو حضارة عريقة، ورسالة، ووظيفة في غاية الأهمية، ولن أدخل في الاستراتيجيات إنما فقط أطلب من أهلي وإخواني في لبنان أن يعوا قيمة الثروة التي خصّهم الله بها، وأهمية هذه الهبة الإلهية التي حباهم الله إياها، وأنعم عليهم بتلاوينها من جبيل إلى بعلبك، إلى زحلة وجزين، من طرابلس إلى صيدا وأخيراً حين أعطاهم هبة لبنان وهبة الخالق الأعظم، حين أعطاهم فيروز الرحابنة ليخلّدوا لبنان، ويجعلوه أغنية فرح وابتسامة محبة ورونق الشرق العربي عبر بوابته الواسعة بيروت.
فحين كانت الأحداث المقيتة تجول في لبنان ناشرة الدمار والانقسام، كانت فيروز والرحابنة يوحّدون البلاد، وحين كانت تنقطع السبل بين أبناء الوطن الواحد، وبينه وبين العالم، كانت فيروز تعيد وصل ما انقطع، لا بل كانت صلة الوصل الدائمة بين اللبنانيين
والعالم.
قيل إن فيروز والرحابنة هم سفراء لبنان إلى النجوم، وأقول إنهم كانوا وما زالوا سفراء لبنان إلى القلوب. إنهم رونق لبنان ووروده، إنهم فرحه ومهجته، إنهم جزء كبير من الرسالة اللبنانية القائمة على المحبة والتوحّد والفرح والحياة.
فإلى فيروز، وإلى الرحابنة الكبار، تحية محبة وتقدير واعتزاز.
وأقول لهم، وأنا على متن طائرتي متوجهاً إلى بلادهم الحبيبة، إن أشهر الغياب القسري لم تقطعني عنهم وعن لبنان، فأنا أبدأ صبحياتي وعبر بواكير النهارات بصوت فيروز وألحان الرحابنة. إلا أن فيروز هذه المرة كانت جديدة ومتميزة عبر السحب، فصوتها العذب النديّ كان يسابق لحظات العناق مع لبنان، حيث وجدت نفسي وكأنني في لحظة خشوع أنصاع لصوتها، وأمرّر يدي إلى قلمي يسجل لي وعليّ، ما تفعله فيروز بمشتاق، وما يفعله الفراق من ألم...
لن أدع شيئاً يخرجني عن انتشائي بصوت فيروز وأنا في طريقي إلى لبنان، وقد آليت على نفسي أن أحمل عائلتي إلى هذه البلاد عند أول بادرة أمل باستتباب الأمن فيه، وانتشار الأمان.
ولكن فقط أقول للشعب اللبناني، لأهلي في لبنان: لديكم كل شيء أعلم ذلك، ولكن لديكم هذا الوطن الجميل فتفاخروا واعتزّوا على العالم كله، واجعلوا بلادكم جنّة الأرض وواحة الأمن والأمان من جديد، واتركوا المناكفات والمساجلات، والحمم السياسية، واركنوا إلى عطاءات الله ولا تفرّطوا بها.
كلمة أخيرة إلى فيروز والرحابنة: إن ما قدّمتموه هو ثروة فنية كاملة، ثروة تجاوزت حدود وطنكم لبنان.
خالدة هي أعمالكم، وخالد هو لبنان كما صوّرتموه، ولكننا نحتاج منكم إلى المزيد، وقد أذعن الزمن لكم، وأينعت المناسبات. غنّوا لبنان، ودعوا أجياله تردّد ما قلتم، ففي ذلك حياة وعودة إلى أصالتكم، وقيمكم ولبنانكم.