«بين هلاكين» يعيش الرجل المنشغل بإعادة إنتاج الكوابيس والأحلام. مسيرته تشبه رحلة من الرومنطيقية الريفية إلى رحابة اليأس. إنّه نبي أعزل، وصاحب إحدى أغنى التجارب في الشعر السوري منذ السبعينيات. إذا سألته فسيقول لك إن مهنة الشاعر هي تلطيف مذاق الموت

خليل صويلح
في السابعة من مساء كل يوم، يغادر بيته لملاقاة الأصدقاء القدامى، أصدقاء الطفولة والصبا، في دكان على الشارع العمومي للقرية التي صارت اليوم بلدة. بصحبة هؤلاء يحتسي الشاي ويتبادل الأحاديث العابرة، وحين يداهمه الضجر بعد ساعة أو أكثر، يعود إلى بيته ليرمم روحه بالصمت والتأمل.
الشاعر الذي عرفناه في شوارع السبعينيات والثمانينات في دمشق، ليس هو نزيه أبو عفش اليوم. لقد اختار العزلة في قريته «مرمريتا». فيما مضى كنا نتأبط ديوانه «أيها الزمان الضيق... أيتها الأرض الواسعة»، أو «كم من البلاد أيتها الحرية»، نتمسّك بهما كأيقونة. منذ ذلك الوقت المبكر في الثمانينيات، كان الرجل دليلنا إلى الشعر الصافي، مثله مثل ريتسوس وويتمان وسعدي يوسف. لكن نزيه أبو عفش (1946) كان الأقرب إلى أرواحنا الممزقة، وتطلعاتنا نحو عالم أقل استبداداً، في قصائده تعلّمنا كيف نكتشف بكارة الندى، ومعنى الحرية، ورائحة «هيلين»... بعدها صار لكل شاعر منا «هيلينه» الخاصة، حتى لو لم يلتقِها فعلاً.
كان يقطن في مرأب مكشوف على الشارع، بين بنايتين. بيت يشبه عربة قطار مهجورة، استولى عليها قوم طارئون، ووضعوا حاجياتهم القليلة على عجل في فراغات الجدران: سرير بطبقتين لابنيه عمر وكنان... وكنبة قديمة اكتفى بها للجلوس والنوم. بضعة كراسٍ واطئة، وكتب ومسودات قصائد، وعبارات مكتوبة على الجدران، وأشرطة موسيقى، وألوان مائية، وأدوية للصداع المزمن ونوبات «الشقيقة» ما زالت ترافقه إلى اليوم، كما يليق بصيدلاني محترف. لا يعلم زائر نزيه أبو عفش، متى يكون مزاجه رائقاً، وهذا ما يحدث نادراً، ويكون دائماً على ناديا، رفيقة دربه، ومدرّسة الموسيقى، أن ترمم عطب الزيارة بحضورها الشفيف.
انتظر الشاعر نحو عقد ونصف العقد، كي يحصل على منزل لائق، من جمعية سكنية في الضواحي، فكانت حصته بيتاً واسعاً في الطبقة العاشرة من بناء ضخم، يطل مباشرة على جبل قاسيون. هناك استعاد صاحب «بين هلاكين» كيانه المضطرب ومعنى الأوكسجين، فاختار شرفة المطبخ كي تكون مرسماً للوحاته المؤجلة... ثم وزّع نباتاته بعناية، وعلّق قفص «الحسون» في مكان ملائم للضوء، كمن يعوّض خساراته القديمة في المكان الضيّق. هذا عدا اليأس الذي رافق حياته وشعره إلى الآن. وربما لهذا السبب سوف يخرج الكائن الطارئ من فضاء الشاعر الرحب، بانطباعات خاطئة في تفسير تلك السوداوية المزمنة التي طغت على حياته وشعره. لكن هذا الأمر لا يعني صاحب «أهل التابوت» كثيراً، لأنه على الأرجح، واثق من صلابة جداره الشعري الذي يحميه من قنص الآخرين، والفتاوى النقدية الجاهزة.
شاعر أعزل وحزين، اختار العزلة، كما لو أنه جاء من الريف للتوّ، مكتفياً بأشكال الغيوم، وأمواج الموسيقى (كان يرغب أن يكون موسيقياً)، وتوثّب الحواس التي سوف تتحول ـــــ في لحظة ضاغطة ـــــ إلى مسودات قصائد، تدور في الغالب حول «صوت ألم الإنسان، وأمله الذي هو يأس مقلوب». طالما أنه يعمل في «مهن الهاوية»، فهو يقول «إن مهنة الشاعر هي تلطيف مذاق الموت»، وبذلك ينفي مسؤوليته عن تلك السوداوية التي تسم قصائده، قبل أن يؤكد مرة أخرى أن «كتاب حياتنا مليء بالأخطاء المطبعيّة، لأننا نحن الذين صنعناه، وليس الله».
بوصف آخر: نزيه أبو عفش نبي أعزل بلا مريدين. أو على الأقل هذا ما تبذره قصائده في تراب الآخرين... هؤلاء الذين يتمسكون بمجاز أحد دواوينه المتأخرة «إنجيل الأعمى». ويوضح مكابداته في اقتناص قصيدة هاربة: «القصيدة التي تستهلك ورقتين صغيرتين في الدفتر، ربما تكون قد استهلكت سنتين كاملتين من الحياة»... لا بدّ إذاً من إعادة إنتاج الكوابيس والأحلام.
جاء نزيه إلى الشعر بالمصادفة، مثل الحدّاد الذي كان يتفرج إلى شغله عندما كان طفلاً، فانبهر ببراعته في تحويل الحديد إلى حدوة حصان أو منجل. هكذا مضى منذ «الوجه الذي لا يغيب» (1968)، إلى ديوانه الأخير «ذاكرة العناصر» (2006)، في رحلة شاقة من الرومنطيقية الريفية إلى رحابة اليأس: يأس من عالم يأبى أن يكون جميلاً. لكنه ــــ بأية حال ــــ يذهب في قصائده الجديدة إلى التأمل العميق للكائنات المهملة، وبراعة الطبيعة في صناعة مخلوقات جميلة ومسالمة، من اليرقة إلى زهرة الأقحوان وضجر الدودة. ربما علينا أن نتذكر هنا قصيدته «ما قبل الأسبرين» التي يقول في ختامها: «فكّر في الألم./ مثلما كان ميكل أنجلو يفكّر في عذاب الصخر./ فكّر في الألم. فكّر في أحزان النباتات، في ما يتألمه الطائر. فكّر في صداع الحلزون».
ولكن ماذا عن الشاعر الرسّام؟ يرسم نزيه أبو عفش أيقوناته على نحو آخر: وجوه تتكئ باطمئنان إلى حصتها من الألم والأمل، وأخرى نائمة عند حدود الهاوية والجحيم، بعيون مغمضة ووجوه شاحبة. لوحات صغيرة تستند إلى جدران منزلة بصحبة لوحات فاتح المدرس ونذير نبعة وآخرين... في ما يشبه المتحف الشخصي، ذلك أن الرسم لم يعد بالنسبة إليه مجرد هواية إضافية، بل عزاءً روحياً يخفف وطأة الحزن المقيم.
اليوم لن تجد نزيه أبو عفش في دمشق إلا بالمصادفة. لقد هجر العاصمة. أدار ظهره لصخب المدينة إلى الأبد، وعاد إلى مرمريتا على الطريق بين حمص وطرطوس. هناك اقتطع أرضاً صغيرة بجوار بيت الأب الراحل، واخترع مكاناً يليق بعزلته. هكذا رسم مخططاً بسيطاً للبيت، ثم أحاطه بالنباتات والأشجار، وابتكر مقاعد حجرية يتأمل من فوقها الغروب، مفتوناً بما صنعته يداه. يحكي بشغف عن شجرة السفرجل وزهر الرمان ودالية العنب.
يحكي لنا الشاعر كيف يستيقظ باكراً، لـ«يتفرج على الكون» بطمأنينة ودهشة. يتفقد مزروعاته بعناية الصائغ، ويتأمل حركة الأوراق والبراعم المتفتحة للتوّ... سعيداً، وربما مخذولاً، بعزلته الطارئة. يراجع مسودات قصائده الأخيرة المتراكمة في أدراجه، ويقف في حيرة أمام العنوان. يكتب على الورقة البيضاء «المسيح الهمجي»، لكنه سرعان ما يستدرك خطورة العنوان. «لا أرغب بإثارة حساسية أحد»، يقول هذه الجملة من دون اكتراث. ولكن ما هو العنوان البديل؟ يشرد قليلاً ثم يحسم الأمر بالقول «الراعي الهمجي». الكتاب عن همجية العالم إذاً، وفقدان البراءة، واندحار الطهارة.
رجل صامت على الدوام، بلحية خطّها الشيب... ونظارة طبية تفضح قلقاً وجودياً، وصرخة مؤجلة إلى حين. «النبي المسلّح» بقصائد تترك أثرها طويلاً في الوجدان، ومقالات غاضبة في تشريح عري الآخرين وآلامهم ومكائدهم.


5 تواريخ

1946
الولادة في مرمريتا قرب حمص
1967
صدور ديوانه الأوّل «الوجه الذي لا يغيب»
1995
معرض شامل لأعماله كرسّام
2006
تكريمه لمناسبة بلوغه الستّين في غاليري «عالبال» وإقامة معرض استعاديّ لأعماله
2007
اختار العزلة فهجر دمشق إلى مرمريتا