وائل عبد الفتاحمستقبل المنطقة رهن بما يمكن تسميته: العبودية المختارة. يلتقي الرئيس عمر البشير اليوم الرئيس حسني مبارك في محاولة للبحث عن دعم ضد قرار المحكمة الجنائية الدولية. ويرسل السيناتور الديموقراطي جون كيري من المنطقة رسالة عن تاريخ جديد بين دمشق وواشنطن. كلّها رسائل مرعوبين من مصائر مظلمة. إيقاع حركة يحكمه خوف عاجز بينما هناك خوف اللاعبين الأساسيين من المباراة القادمة. إسرائيل اختارت «بي بي» الأكثر تطرّفاً لتضمن صوتها المتشدّد في مرحلة انتقالية. تطرّف إسرائيل هذه المرّة مختلف. يرتبط بأجندة عداء جديدة تحفظ لها موقعاً في حلف ضد إيران. هذا ما يتوهّمه ليبرمان صانع الحكومات في تل أبيب. وهو موديل غير حاخامات «شاس»... ليبرمان يبني تطرّفه على مقاس «الأعداء». تطرّفه ليس قديماً ولا أبديّاً. لكنه ابن قلق المرحلة ولا فرق عنده بين مبارك و«حماس». كلهم أعدائي ولا بد من إخافتهم في مرحلة الفوضى. كلّ على طريقته. وليس هناك أفضل من «نتنياهو» الديك المنفوش الذي لا يحبّ مبارك التعامل معه لأنه منفلت، هجوميّ. كما أن «حماس» ستشعر بأنّ الأبواب موصدة أمام استقبالها شريكاً في عملية السلام.
اختيارات إسرائيل في النهاية تعبير عن معارك بين قوى لها وجود وتعبّر عن احتياجات وأشواق.
وهكذا في إيران... معركة بين خاتمي ونجاد. المعتدل والمتطرّف. قلق آخر لكنه للأمام، في طريق البحث عن القوة. إدارة أوباما ترسل رسائل استكشافيّة عن الحوار مع إيران. وإيران لديها ما تلعب به. لديها المسافة بين خاتمي ونجاد. وقوّتها النائمة في أدراج سرية. الخوف من امتلاكها السلاح النووي. ومن رغبتها في ابتلاع الجارات الضعيفات. وأيضاً من قدرتها على حشر نفسها في مواجهات بعيداً عن حدودها.
هذه قدرة تجعل إيران موجودة خارج الجغرافيا. تتعامل معها القوى الناعمة لأوباما بمقياس اللاعب القوي لا المنتظر للجزرة أو العصا.
أوباما يلعب بقوته الناعمة نفسها في دول «العبودية المختارة» التي تبحث عن مخرج من مأزقها التاريخي. لكن نعومته في هذه الدول مختلفة. نعومة تحذيرية.
وهذه الدول تغيّر صورتها لتتفادى المصير الغامض. ماذا سيفعل نظام مبارك إذا عدّه أوباما من مخلّفات العلاقة المعقّدة بين القاهرة وواشنطن؟ وكيف سيهرب البشير من الملاحقة القضائية الدولية؟ وهل ستتغيّر اتجاهات المحاكمة الدولية عندما تلين دمشق؟ هكذا فإنّ الخوف والمفاجأة هما عنصرا الحركة السياسية والدبلوماسية في المربّعات العربية. تتشدّد المواقف وتلين وفقاً لمسار غير مرئي. الأوراق تحت الطاولات أكثر تعدّداً وتنوّعاً من تلك التي فوق الطاولات. الصور الخرافية تحلّ محلّ الواقع أمام الشاشات وكاميرات التلفزيون، أمّا في الحجرات المغلقة أو عبر شفرات المكالمات الهاتفية، فتنقلب الأوضاع بعدها إلى درجات ملحوظة. يمكن فهم تطرف المقاومة لكن لماذا تتشدد الأنظمة. حماس مثلاً ترى أن الإفراج عن معتقليها لدى سلطة أبو مازن شرط لا يمكن التراجع عنه لأنها تسعى إلى تعزيز مواقعها... لكن لماذا يتشدّد أبو مازن؟
أبو مازن وريث أسلوب يرى أنّ دور الأنظمة هو منع الحركة. أنظمة ترى خلودها في الجمود. والسلطة هي رديف أنظمة. ويتشدد أبو مازن مثلها. يصنع خطاب العناد كما يفعل البشير حين يرفض تسليم المتهمين في دارفور مثلاً.
لكن خطابات العناد هشّة. سهلة الكسر تعتمد على بروباغندا قديمة عن البطولة العربية ومؤامرات الغرب، واستهدافهم الحكام الأبطال. والجماهير الواسعة لا تهتم بهذه المشاهد الاستعراضية، تشاهدها بهذيانات لم تعد تصدق أحداً للنهاية ولا تمنح وعيها كاملاً إلّا لرغبة الخروج من سنواتها الكبيسة.
الخروج انتحاري. لا يرى الجمهور الواسع إمكاناً للخروج من العبودية المختارة. وليس أمامه إلا البحث عن تذكرة إلى الجنّة. لا تهمّه السياسة. لكنه يسير إلى الحافة. مسيرات عواطف بلا مشاريع سياسية تبني دولاً حقيقية، لا معسكرات إيواء في الطريق إلى الجنة.
لم تعد الأنظمة تخجل من عبوديتها المختارة. لكن الجماهير تسعى إلى عبودية أخرى. تستسلم لصورتها الافتراضية كضحايا مؤمرات كونية، واضطهاد ديني وعرقي.
بينهما: عناد الأنظمة الهش وهذيانات الجماهير المنهكة... يبدو السجال بين أن تحدث التهدئة أو لا تحدث... الحوار متى؟ لا كيف؟ مجرد الاجتماع هدف في حد ذاته.
الطاولة هي المهمة لا ما يقال حولها. الجلوس معاً هو القيمة لا ما يمكن أن يفعله الجلوس.
هذه تداعيات العبودية المختارة.
عبودية نتاجها الوحيد أن الحركة تساوي السكون. لا شيء يتغير، لأنه لا مكان للمصالح ولا للمشاريع. إنها امتحانات في التحمّل لا اختيارات في الحياة... أو مشاريع للمستقبل.