أنطوان سعد
بعيداً من الأضواء، تتداول الأوساط المسيحية عموماً والمارونية خصوصاً في الاستحقاق الرئاسي منطلقة من مسلّمتين أساسيتين حددتهما الكنيسة المارونية في البيان الصادر عن المطارنة الموارنة مطلع نيسان الفائت: احترام قاعدة الثلثين في نصاب جلسة الانتخابات الرئاسية وإلزامية إجراء هذه الانتخابات ضمن المهلة الدستورية المحددة لذلك.
وتتفق هذه الأوساط على رفض الانجرار في أي من المعسكرين المتنازعين اللذين يسخّران الدستور والأعراف ومقدرات البلاد كل بحسب مصالحه الآنية، كما حصل إبان الجدل بين القائلين بوجوب تحقيق المشاركة أو العمل على تحصين السيادة عندما أكد نداء المطارنة الموارنة في أيلول الماضي إلزامية أخذ الأمرين معاً بالاعتبار، لأن أحدهما لا يفترض أن ينفي الآخر أو يتقدم عليه.
وترداداً لأصداء بكركي، ينشط في هذا الاتجاه الأباتي بولس نعمان، الرئيس العام الأسبق للرهبانية اللبنانية المارونية الذي لعب دوراً بارزاً في النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، وخصوصاً على مستوى احتضان تجربة الرئيس الراحل بشير الجميل، وانتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1982. ويذكّر الأباتي نعمان بأن قائد «القوات اللبنانية» الذي أعلن ترشّحه للرئاسة كان شديد التمسك بضرورة تأمين نصاب الثلثين في جلسة الانتخاب. ويذكر أن بشير الجميل اتصل به قبل الجلسة وطلب منه المساعدة على إقناع بعض النواب المترددين لحثهم على حضورها وإن كانوا معارضين لانتخابه. ومن النواب الذين اجتمع بهم الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية في تلك السنة حسين الحسيني وألبير مخيبر ومجيد أرسلان وفؤاد لحود وبشير الأعور. وقد نجح في إقناع معظمهم بحضور جلسة الانتخاب، فيما تمسك مخيبر برفضه وبقي في منزله في بيت مري، فيما انتقل الحسيني إلى المنطقة الغربية خوفاً من تعرضه للمضايقة بعدما كان قد وعد بالنظر في هذه المسألة.
وفي اعتقاد الأباتي نعمان أن الاعتبارات الميثاقية التي يفترض بها أن تعلو كل اعتبار تحتّم على اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً عدم المس بقاعدة الثلثين المتبعة منذ الانتخابات الرئاسية الأولى في الجمهورية اللبنانية. غير أن هذا لا يعني تعريض الاستحقاق الرئاسي لخطر الفراغ أو المساومة من جانب أي من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين، بل على العكس القيام بما يلزم لتأمين أكبر قدرة من المشاركة في جلسة الانتخاب لكي تكون منطلقاً لفرصة جديدة للتجربة اللبنانية القائمة على التعدد وحق الاختلاف وقبول الآخر وإشعار الجميع بالمشاركة الفعلية في عملية إدارة المؤسسات الدستورية والإدارات العامة وكل مرافق الشأن العام. ويلفت إلى جملة خطوات هي موضع درس لتأمين حضور أكبر عدد من النواب، متحفظاً عن الكشف عنها لأنها يجب أن تتم بعيداً من الأضواء بغية ضمان نجاحها.
ويدعو الأباتي نعمان جميع الحريصين على إجراء الانتخابات الرئاسية إلى الالتفاف حول البطريرك الماروني مار نصر بطرس صفير وإلى «السير وراءه في هذه العملية الدقيقة»، كاشفاً عن انطباع تكوّن لديه بأن العديد من اللاعبين المحليين والمؤثرين الإقليميين والدوليين، وبخاصة في الولايات المتحدة والكرسي الرسولي، يتمسكون بمبدأ الانسجام مع الخط البطريركي الماروني الذي يمثّل جسر العبور الوحيد بين الطرفين المتنازعين في لبنان اللذين تفصل بينهما هوة سحيقة تهدد بتفسخ الكيان اللبناني، وهذا أخشى ما تخشاه جميع الدول المعنية بالمسألة اللبنانية، وبالمقدار الذي تلتفّ فيه القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها حول بكركي تزداد قدرة البطريرك صفير على التأثير في مجريات الأحداث وخاصة على عملية انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية.
وإذا كان الوقت لا يزال باكراً لإنضاج توافق على مرشح توافقي للرئاسة الأولى، تنكب الأوساط المسيحية على ضرورة تحقيق إجماع على مسلمتي احترام قاعدة نصاب الثلثين وإلزامية إجراء الانتخابات، عملاً بتوجه سيد بكركي. وفي هذا الإطار، يُتوقع أن تركز عظات البطريرك الماروني ومواقفه وبيانات مجلس المطارنة على ضرورة مقاربة الاستحقاق الرئاسي من الزاوية التي تحفظ الاستقرار في البلاد عبر تعزيز الميثاق الوطني وشد الروابط التي تجمع اللبنانيين ولا تفرقهم. فالمهم ألا يركز اللاعبون على تحقيق ما يفيدهم في الظرف الراهن ويتناسوا ما قد يترتب عليه من نتائج وخيمة، تماماً كما حصل إبان الانتخابات النيابية الأخيرة عندما اهتم كل طرف سياسي بمكسبه الآني، من دون أخذ تحذير بيان المطارنة الموارنة الاستثنائي بالاعتبار، فكانت النتيجة ما يعانيه اللبنانيون من انقسامات منذ ذلك الحين، «وقد أعذر من أنذر».