بشتفين ـ أميمة زهر الدين
ذخرت منطقة جسر القاضي وبشتفين وديركوشة بعدد كبير من معامل الفخار، حيث وصل عددها إلى 65 فاخورة، بينما تدنى عددها اليوم إلى أربع، وهي على طريق الانقراض.
ويشير خالد ضو من بلدة بشتفين إلى أنه «إبان الحكم العثماني حوالى سنة 1800 قدم أحد الحرفيين الفرنسيين ويدعى «أكادور» إلى منطقة جبل لبنان، وعند وصوله إلى منطقة المناصف أعجب بتربتها الغنية بالدلغان ذي المواصفات العالية، وهو المادة الأساسية لصناعة الفخار، فشجع بعض الأشخاص على تعلم هذه الحرفة، وبمساعدة أحد الحدادين صنع الآلة التي تسمى اليوم الدولاب أو السندان، وهي الآلة التي نصنع عليها كل الأشكال الفخارية، على غرار الآلة التي كانت تستعمل في فرنسا. وبنى محترفاً صغيراً في القرية ما زالت آثاره حتى يومنا هذا».
ويشير ضو إلى «أنه في الأربعينات أصبح عدد الفواخير في ديركوشة وبشتفين وجسر القاضي 65 فاخورة، وكانوا يصدرون إنتاجهم ــــــ إضافة إلى السوق اللبنانية ــــــ إلى فلسطين، قبل النكبة، وإلى سوريا، وكان البيع حينها عن طرق المقايضة. في أحداث 1958 التي مرت على لبنان شهدت غالبية المناطق اللبنانية حالة فقر بسبب الحرب، لكن هذا العدد من الفواخير خلق حركة تجارية كفت المنطقة كلها وحمتها من العوز، فكان تقريباً الطابق السفلي من كل منزل يستعمل فاخورة». وأضاف: «عام 1968 بدأ النزوح إلى المدن وبدأت تنقصنا اليد العاملة حتى وصلنا إلى مرحلة بدأت يتضاءل فيه عدد الفواخير حتى أصبحت في أوائل الثمانينات سبع فواخير بين جسر القاضي وبشتفين. بعد أحداث 1982 تناقصت إلى خمس، واليوم هناك فقط أربع، من المؤكد أنها على طريق الانقراض. أما على صعيد لبنان، فهناك فاخورة واحدة في البرجين (إقليم الخروب)، وفاخورة في الغازية (الجنوب)، وفاخورة في ضهر الأحمر، فاخورتان في راشيا وفاخورة في بيت شباب».
ويؤكد ضو أن السبب الرئيسي لانقراض هذه الحرفة «عدم حماية الدولة وتشجيعها لهذه الحرف التراثية. ففي فترة سابقة كانت الحدود مشرعة وكانت عشرات الشاحنات تدخل بأسعار متدنية، فكلفة الشاحنة الكبيرة محملة بالفخار من حلب إلى لبنان 600 دولار حتى ملأت الأسواق وبقيت لنا فضلات السوق، فرفعنا الصوت، لكن دون جدوى. أما اليوم فالأكثر ضرراً علينا هو طمع التجار الكبار. فالتاجر الذي يستورد 70 أو80 صنفاً من الخارج بملايين الدولارات لم يوفر هذه السلعة من استيراده، حتى لو كانت أرباحها ضئيلة، حتى الأشياء الصغيرة «كصحن الحمص» التي يشكل العمود الفقري لمصالحنا. فلجني أرباح قليلة يوقف 7 أو 8 محترفات في البلد». ويتابع: «على الرغم من هذا، بقينا صامدين وجددنا أصنافاً رغم المشاكل التي تعترض التسويق، فمن يتعلم هذه الحرفة يدمنها، فهي بين الفن والإبداع والتطوير والعمل، ولكني اليوم أحاول أن أبعد أبنائي عن هذه الحرفة لأنها حرفة ليس لها مرجع في الدولة، فنحن لسنا صناعيين تابعين لوزارة الصناعة، كما أننا لسنا تجاراً تابعين لوزارة التجارة».
وحول رعاية الدولة لهذه الحرف التراثية أشار ضو إلى «أن المرجع المختص هو وزارة الشؤون الاجتماعية. ولقد شكلنا وفداً في السابق بهدف طلب قرض لتحسين أوضاع محترفاتنا. استقبلنا المسؤولون بكل رحابة صدر واستضافونا أحسن استضافة وأشبعونا كلاماً تشجيعياً، لكن عندما أتت القروض وزعت على الصناعيين الكبار. حاولنا طلب قرض جماعي لخمسة أشخاص من أصحاب المحترفات وقدمنا الضمانات العقارية المطلوبة مقابل القروض، فالواحد منا لا يستطيع تحمل القرض وحده، وبدل إحياء مصلحة واحدة يحيون خمساً، فكان الجواب أن هذا خرق للنظام الداخلي للمؤسسات».
ويرى ضو «أن من يملك حرفة صغيرة في وطننا عليه إنشاء دولته الخاصة فيؤمن الكهرباء والضمان الاجتماعي والمياه، أما الدولة فمسؤولة عنه فقط عند مطالبته بالضرائب أو تأخيره عن تسديد الفواتير». ويختم: «نحن نعيش في مشروع وطن قد يصبح وطناً أيام أحفادنا».