إذا وقع فراغ في رئاسة الجمهورية، سيكون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على مسافة واحدة من الحكومتين، وسينظر إليهما من المصلحة الوطنية وليس من منظار الفئـة التـي ستدّعي الشرعية. وخلافاً لعام 1988 لن تكون الليرة وسيلة ضغط سياسية. وليست الحال نفسها ربما عام 2007: لا متاريس وانقسامات طائفية، ولا انشقاق جغرافياً وصراعاً مسلحاً. وتحوطاً لذلك يتجنّب الخوض في الفراغ الدستوري، لأن انخراطه فيه يغذّيه. لا إشارة دولية لديه إلى أن حكومة ثانية ستفضي إلى تجميد أموال لبنان وذهبه. لا يتوقع الحاكم، في أوساطه، أن يعاقب المجتمع الدولي اللبنانيين على مجازفات سياسييهم.

نقولا ناصيف



يقصد سفراء الدول الكبرى المعنية بانتخابات الرئاسة اللبنانية، عرباً وأجانب، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بلا ضجيج وأضواء إعلامية. ويذهبون إلى السياسيين، في الموالاة والمعارضة، ليطلقوا من منابرهم اجتهاداتهم في الإستحقاق الرئاسي. ليس لدى مصرف لبنان سياسة إعلامية. لا يصوّر السفراء والزوّار لأن الثقافة المصرفية تعتمد السرية. التقليد المتبع في كل المصارف المركزية في العالم. والإعلام نقيضها. لكن الحاكم، الذي فاز السنة الماضية، للمرة الثانية بعد عام 1996، بجائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم، ليس شخصية سرية. اقترن اسمه بالرئيس رفيق الحريري كأحد أفضل معاونيه لإدارة أمواله، ثم جاء به الحريري ليؤازره في خططه لإعادة بناء لبنان نحو المستقبل. ناط به لجم تدهور الليرة اللبنانية وإعادة الإستقرار والثبات والثقة إليها بإزاء العملة الأميركية الأقوى.
في المقابل استمد سلامة من الحريري ـــــــــ وهو يصفه بـالإحتياط الاسترتيجي للبنان ـــــــــ قوة دوره ليضيفها إلى حصانة وظيفته. في حقبة ما بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة قيل الكثير في الحاكم، الأطول ولاية بين أسلافه. قبل ذلك، عام 2003 اتهم بحماية أموال «حماس» وحزب الله. ثم قيل إنه تخلى عن الحريري وانضم إلى الرئيس إميل لحود، ونصح بالسواب عام 2004 على طريق تمديد ولايته. قيل كذلك بتغاضيه عن فضيحة بنك المدينة. ويقال اليوم إنه على طرف نقيض من الرئيس فؤاد السنيورة، لأنه يستقل بالسياسة النقدية لمصرف لبنان عن حكومة الغالبية. ردّ فعل الحاكم أنه يحافظ على استقلال المصرف إذ يتعارض في بعض الأحيان مع السياسة المالية للحكومة. يعرقل مدّ السوق بالمال، ويقول إنه يريد تجنيب النقد الوطني الإنهيار الشامل.
عندما يذهب إليه السفراء النافذون، العرب والأجانب، يسألونه عن مدى تأثير السجال السياسي الساخن على الليرة اللبنانية، وكذلك احتمال حصول فراغ دستوري في رئاسة الجمهورية. لا يحدّثونه في الإستحقاق الرئاسي مباشرة، ولا يسألونه هل هو مرشح، أو يدعم ترشيح أحد، شأن حوارهم مع السياسيين. يشيدون بكفايته وكفى. لكنهم على الدوام مسكنونون بذعر أموال بلادهم وقروضها المستثمرة في لبنان خشية إهدارها، لأن شعوبهم تسائلهم عنها. يستفسرون أيضاً عن مصير الودائع العربية. بالقلق نفسه يعبّرون عن خوفهم على حياة جنودهم المنتشرين في الجنوب تطبيقاً للقرار 1701 إذا تفشّت الفوضى.
عندما يريد الحاكم الدفاع عن مؤسسته يتسلّح بالأرقام: كان حجم القطاع المصرفي عندما تسلّم المنصب بين 6 إلى 7 مليارات دولار، فأضحى اليوم 90 ملياراً، وهو رقم معطوف على آخر: ودائع المصارف في لبنان 69 ملياراً، وفي الخارج 12 ملياراً، إلى 7 مليارات دولار هي ودائع الأموال الخاصة للمصارف. أرقام كهذه، على وفرة الإنتقادات الموجهة إلى السياسة النقدية للحاكمية، لا تحتمل التأويل. أضف أن موازنة مصرف لبنان، باستثناء احتياطي الذهب، كانت عند تسلّمه المنصب بين 600 إلى 700 مليون دولار، فأمست حالياً 13 ملياراً.
تمثل حصيلة هذه الأرقام، في تقدير الحاكم، واقع أن مصرف لبنان لم يكتفِ بإنجاز أعمال، بل قدّم نتائج تقود إلى استنتاج غير ملتبس، هو أن المؤسسة النقدية الأولى نجحت حيث أخفقت المؤسسات السياسية. ليس في الأمر مفاضلة، ولا مناقشة لمعدلات الذكاء إلا بمقدار تقويم المرحلة المشتركة لفريقي عمل حقبة السنوات الـ15 المنصرمة. حدود نجاح كل منهما في أداء دوره.
والأصحّ أن المقارنة ممكنة لأن الفريقين اللذين كانا يمسكان بزمام قرار الحكم والمبادرة هما واحد. وكان على هذا الفريق أن يرسم حدود مصالحه في ممارسة دوره.
مذ أعيد بناء الدولة في مطلع تسعينات القرن الفائت، كان ثمة قرار نقدي في موازاة قرارين آخرين هما القرار الإقتصادي في يد الحريري، والقرار الأمني في يد قائد الجيش حينذاك لحود. كان القراران السياسي والأمني يستظلان حكم دمشق للبنان بغية ضمان استقراره. وكانت الليرة تستمد قوتها من الحريري.
بعدما عُهِدَ إلى سوريا تحقيق الأمن كاملاً في لبنان عام 1990، عُهِد إلى الحريري أواخر عام 1992 إعادة البناء، فعهد بدوره إلى سلامة، بعد أشهر، لجم الليرة اللبنانية. وهكذا لبث الحاكم الجديد على رأس مصرف لبنان الولاية الأطول عمراً منذ إنشائه. في عهدين اتسم كل منهما بالتفاهم والتعارض، وكان أحدهما نقيضاً للآخر، لزم سلامة منصبه الذي كان ظلّ وجود الحريري في الحكم حتى ما بعد اغتيال الأخير عام 2005: جاء به إلى الحاكمية الرئيسان الياس الهراوي والحريري عام 1993، ثم مدّد تعيينه فيها الرئيسان المعارضان للأولين لحود وسليم الحص عام 1999، ثم مدّد له فيهما ثانية رئيسان لحقبة كانت تُحكم من دونهما هما لحود ونجيب ميقاتي 2005. وهكذا، بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة وتداعي العلاقات اللبنانية ـــــــــ السورية وتسيّب الأمن، أضحى الحاكم وحده، عام 2005، يمثل آخر بقايا الإستقرار. ولذا تراه يقوّم مسار الليرة اللبنانية منذ ذلك الحين بتفاؤل لم يكن، في ظنّه، يخلو من العقبات وتأثره بالنزاعات السياسية الداخلية والمفاجآت الإقليمية.
في سنيه الـ14 على رأس الحاكمية، يلاحظ، كما يلمس المحيطون به، أن الليرة اللبنانية إما استقرت أو تحسّنت. وفي الحالين ساعدت على إرساء ثقة اللبنانيين بها. اهتم بألا تجعلهم يعتقدون بضعفها أو تدهورها لئلا يتسببوا بانهيار الثقة بالقطاع المصرفي. الأمر الذي يحمل الحاكم على التسلّح بالأرقام مجدداً: زاد الدين العام في السنوات الـ14 المنصرمة أربعة أضعاف، وارتفع من 11 مليار دولار إلى 40 ملياراً، وتزايد دين القطاع الخاص لدى المصارف إلى 19 ملياراً، في حين تدنت الفوائد فيما كان يقتضي ارتفاعها. يعزو ذلك إلى الثقة بالإدارة النقدية التي لا يزال مصرف لبنان يقبض على ناصيتها، في حقبة كان اللبنانيون خلالها قد فقدوا، وخصوصاً في السنتين ونصف السنة المنصرمة، كل عناصر الثقة بالإدارات السياسية والمالية والأمنية. ويلاحظ أن الأحداث الأكثر خطورة التي عبرها لبنان، في السنتين ونصف السنة الأخيرة، كافية لتقويض آمال الثقة بالنقد الوطني: اغتيال الحريري والفوضى الأمنية، الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006 والتي رافقها الحصار الإقتصادي المطبق عليه طوال شهرين. يضيف إليهما شلّ عمل المؤسسات الدستورية منذ استقالة الوزراء الشيعة في تشرين الثاني 2006، ثم الإعتصام في وسط بيروت في كانون الأول وهو يقترب من سنته الأولى. كل ذلك لم يجرّد السياسة النقدية من الثقة: زادت ودائع المصارف 8 مليارات دولار، من 61 ملياراً إلى 69 ملياراً.
سرّ ذلك من سرّ الحاكم: سياسة نقدية مدروسة واحترام السوق. وحيث أخفقت السياسة في الأداء وقادت البلد ـــــــــ أو تكاد ـــــــــ إلى الإنفجار، يظل أداء مصرف لبنان الأكثر احتراماً وتقديراً.
صدقية أرقام سلامة من جديتها. دقق فيها صندوق النقد الدولي.
إلى مَ ينبعي أن يعزى ذلك؟
بحسب الحاكم، أخرج مصرف لبنان من دائرة الخلافات السياسية اللبنانية، فحيّده وحدّد مهمته، في وقت كانت نزاعات السياسيين تجتذب مؤسساتهم الدستورية من ساحة إلى أخرى، ومن ملف إلى سواه، دون أن ينجح أي من الطرفين، في الموالاة والمعارضة، في تسجيل انتصار كامل على الآخر. وليس في وسع أحد منهما فعل ذلك. تصاعدت حدة الإنشقاق الداخلي بمقدار تراكم الملفات السياسية والأمنية الساخنة، واحداً تلو واحد، وكلها بلا حلّ: لا المشكلة الحكومية، ولا سلاح حزب الله، ولا الأمن المسيّب، ولا الصراع المفتوح مع سوريا، ولا سير عمل المؤسسات الدستورية، ولا السياسة الخارجية الموحّدة، ولا انتخابات رئاسة الجمهورية.
آخر الملفات تلك هو أولها.
هل يُعقل أن يقال عندئذ: حيث أخفق السياسيون ينجح الموظفون؟ أو أن يقال أيضاً إن السياسيين ذهبوا بمؤسساتهم إلى الإنهيار، بينما حافظ الموظفون عليها. وحيث فشل الوزير والنائب يمكن أن ينجح الحاكم أو القائد؟
عندما يمسي التقويم عند هذا الحدّ يكون حلّ المشكلة أكثر وقعاً من المشكلة نفسها: فشل المؤسسات السياسية في أن تدير نفسها بنفسها وأن تحكم باسم الشعب اللبناني، فيحكم عندذاك، باسم الشعب اللبناني، الجيش أو الليرة. ليس فشل المؤسسات السياسية فحسب، بل كذلك فشل مواصفات السياسيين.
لا يريد سلامة أن يذهب إلى هذا المقدار من النقد.
الرجل لا يعدّ نفسه مرشحاً لرئاسة الجمهورية، وليس في صدد الترشّح أو القيام بنشاط يوحي رغبة في الإنخراط الجدّي والعلني في استحقاق 2007 والسعي إليه، اللهم إلا إذا استدعاه توافق طرفي النزاع إلى رئاسة الجمهورية. هو الموقف نفسه المنسوب إلى قائد الجيش العماد ميشال سليمان: أن يكون رئيساً باسم توافق اللبنانيين، لا مرشحاً يبحث عمّن يتوافق عليه. تجعل مفارقة الحاكم والقائد أنهما على رأس المؤسستين الوحيدتين اللتين ظلتا في منأى عن الصراع الداخلي الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة بأبعاده السياسية والمذهبية والإجتماعية. حافظتا على وحدتهما ودورهما. على الأقل ذلك ما ذكرته مجلة «الإيكونوميست»، قبل أسبوعين، بقولها إن إسمي المرشحين الأكثر تردداً في خضم الإستحقاق الرئاسي لإنقاذ الأزمة الدستورية في لبنان هما قائد الجيش ميشال سليمان وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في حين سمّت 8 مرشحين آخرين يطمحون إلى المنصب. كلاهما، القائد والحاكم، يقول إنه لا يريد المجازفة بالمؤسسة التي صمدت. بعد انتخابات الرئاسة تتبقى لسليمان سنة على رأس المؤسسة العسكرية حتى يحال على التقاعد عام 2008 ما لم يبادر من تلقائه إلى الإستقالة، ويتبقى لسلامة في منصبه حتى سنة 2011.
كل منهما ـــــــــ إذا تمّ التوافق عليهما ـــــــــ لا يطلبان سوى أن يترك لهما مجال العمل. والمخرج الدستوري للإنتخاب ثانوي لأن المصلحة الوطنية تتقدّم عليه.
لا يتنقد الحاكم الطبقة السياسية الحالية، لكن واقع ممارسة الحكم وطريقة إدارة المؤسسات الدستورية دفعت بالوضع الداخلي إلى مأزق حقيقي. لا يعدّ نفسه جزءاً من الطبقة السياسية تلك، ويرى في المقابل مبرّرة وجهة النظر القائلة بأن البلدان المتقدمة تدعو إلى الحكم السياسيين لا قادة جيوشها ولا حكام مصارفها المركزية. ولا يملأ اللعبة الديموقراطية إلا سياسييوها المتمرسون بأدائها. مع ذلك استدعى لبنان إلى حكمه قائدين للجيش، أحدهما نجح هو اللواء فؤاد شهاب والآخر أخفق هو لحود، وحاكماً لمصرف لبنان هو الياس سركيس، في أوضاع طبعها الإستثناء.
وفي واقع الأمر أضحى التوافق على الإستحقاق الرئاسي الإستثناء الذي يرسّخ قاعدة أن كل استحقاق رئاسي لبناني في المستقبل ينبغي أن يُجرى وفق هذا التوافق، إذا عبر هذا الإستحقاق بميزان قوى داخلي، وإقليمي من خلاله، مشابه لما هو ناشب بين اللبنانيين منذ نهاية العام الفائت. لذا يعتبر سلامة، ما دام التوافق هو الذي سيرعى استحقاق 2007 ويجنّب البلد الفوضى، أن مَن يحظى بتوافق اللبنانيين هو الرئيس المناسب سواء كان قائداً أو حاكماً أو سياسياً، ويكون على صورة اتفاق الطائف من حيث هو تسوية توافقية لاتزال السبيل الأفضل والأكثر أماناً لاستقرار الوضع اللبناني والعلاقات اللبنانية ـــــــــ اللبنانية. إلا أن حكم لبنان للمرحلة المقبلة، بالنسبة إلى الحاكم، لا يقتصر على السياسة. يحتاج إلى جهود مماثلة في الشأنين الإجتماعي والإقتصادي المؤثرين في استعادة اللعبة السياسية دورها. وهكذا لا يرى أن على الرئيس المقبل أن يحمل برنامجاً سياسياً، وإنما أن يكون صورة مطابقة لأهداف الدور الذي ناطه به اتفاق الطائف والصلاحيات التي رسمها له الدستور: أن يكون رئيس الجمهورية مصدر أمان للمؤسسات الدستورية وحَكَمَاً بينها. تالياً، على أولى حكومات العهد الجديد أن تتسلّح ببرنامج إصلاحي تعمل على تنفيذه لمعالجة المشكلات المطروحة بتنسيق وصبر وعمل دؤوب. ولعلّ أبرزها في تقدير سلامة: البطالة التي تجعل 26 ألف طالب لبناني يتخرجون سنوياً برسم أقدارهم: بعضهم يهاجر، والبعض الآخر يعمل برواتب هي دون شهادته، والبعض الثالث يلزم بيته. هناك أيضاً ملفات الطاقة والكهرباء والبترول التي تلقي بثقلها على خزينة الدولة، والصحة والتربية والضمان الإجتماعي، والحاجة إلى حكم جديد يبعث على الثقة بغية المساهمة في تجديد الدين العام في السوق والمتزايد في غياب حلول سياسية جذرية. ولا تفوت هذه الأفكار الحاجة إلى حلول لمشكلات سياسية مماثلة في وطأتها، كإطلاق الحوار الدائم بين القوى اللبنانية المتشعبة الإنتماء والولاء، ووضع قانون جديد للانتخاب يؤمن أفضل تمثيل شعبي، وإطلاق اللامركزية الإدارية عبر أوسع استخدام لصلاحيات المحافظات والبلديات، وتوزيع متساو للتنمية على كل المناطق اللبنانية.
وخلافاً لكثيرين يعتقدون بفروق جوهرية بين حكم الجيش وحكم مصرف لبنان، وبين حكم دولة هي حكم المؤسسات والشعب بما في ذلك حكم العسكر والليرة، تكمن وجهة نظره، في أن سني تمرّسه على رأس المصرف المركزي قادته إلى اقتناع هو أنه وجد المصرف صورة مصغرة للبنان. وكما تقيم التركيبة الحزبية والإجتماعية والطائفية اللبنانية في الجيش بحساسية، كذلك في مصرف لبنان الذي هو نموذج مماثل. يجد فيه الحاكم كل شرائح المجتمع الكثير التعقيد والغموض ودقة الإدارة والتحسّب من انفجاره بلا اشتباك داخلي. يسلّم بالواقع المذهبي اللبناني الذي أضحى أعمّ من المصرف نفسه، ومن لبنان، مشكلة العالم العربي برمته. يختصر الفكرة في أن مَن ينجح في مصرف لبنان ينجح في حكم لبنان. نجح قبلاً سركيس رغم المصاعب التي أحاطت بحكمه على أرض لبنان: الفلسطينية ــــ اللبنانية، والفلسطينية ــــ السورية، واللبنانية ـــــــ السورية، والسورية ـــــ الإسرائيلية، والفلسطينية ـــــــــ الإسرائيلية، ناهيك باللبنانية ـــــــــ اللبنانية. لم يفرّط بالسيادة، ولا بالليرة ومقوّمات الإقتصاد، ولا بالجيش، ولا بمعادلة توازن القوى المحلي والوحدة الوطنية، ولا باحترام النظرة إلى الدولة. بل إلى رئيس الدولة أولاً وآخراً.
يدفع ذلك بالملف السوري إلى واجهة الحدث مع سلامة. فحاكم مصرف لبنان متهم، كالإتهام المساق إلى قائد الجيش، بأنه لا يزال على صلة بسوريا ورئيسها بشار الأسد، في وقت تقف حكومة السنيورة على طرف نقيض من دمشق، وتتهمها بتقويض الإستقرار في لبنان والسعي إلى تدمير مؤسساته الدستورية، وبمسلسل الإغتيالات وأحداث التفجير، وتهريب السلاح إلى الداخل، وتحرّض المجتمع الدولي عليها.
لا ينفي علاقته بالأسد ولكنه لا يدرجها في نطاق شخصي. ويعزوها، بحسب المحيطين به، إلى شقين: فتح مصارف لبنانية في سوريا بلغ عددها حالياً 6، وإبداء الرأي في المصرف المركزي السوري والجهاز المالي وتأسيس القطاع المصرفي الخاص هناك. جمعته بالرئيس السوري مقابلتان أولاهما عام 2000، وثانيتهما في مؤتمر اقتصادي عقد في دمشق عام 2005 على أبواب الإنسحاب الشامل للجيش السوري من الأراضي اللبنانية، من غير أن تتوسع الحلقة إلى الإتصال بمسؤولين سياسيين وأمنيين، على مرّ حقبة وجود الجيش السوري في لبنان مذ تسلّم الحاكم منصبه. كان دور الإتصال للسياسيين والأمنيين اللبنانيين.
في بساطة لمن اطلع على موقف الحاكم: لم يكن قبلاً جزءاً من الطبقة التي والت سوريا سنوات طويلة وأثرت مصالحها من خلالها، ولا هو يهاجمها اليوم كالسياسيين كي يبرىء نفسه من تهمة علاقته بها. لكنه متيقن من أن لا استقرار للبنان من دون علاقة متكافئة مع سوريا، ولن يكون في وسع أي رئيس أن يحكم لبنان أو يعيد إليه الإستقرار وهو يتصرّف على قاعدة مناصبتها العداء.
بسبب ذلك ينسب إليه المحيطون به أن ما يعنيه مصلحة مصرف لبنان راهناً. وإذا اجتهدت الغالبية النيابية كي تجد مصلحتها في مناوأة النظام السوري، والمعارضة في التحالف معه، يرى الحاكم مصلحة مصرف لبنان تبعاً لمقاربة مختلفة.
المادّة 49 سيف التحريم

عندما اشترطت المادة 49 من الدستور استقالة موظفي الفئة الأولى أو إحالتهم على التقاعد قبل سنتين من ترشحهم لانتخابات رئاسة الجمهورية، كانت توجّه أنظارها إلى منصبين يمسكان بعصب السلطة وقوتها: الجيش والليرة. بسببهما قيّدت ترشيح قائد ذاك، وحاكم تلك كي يحال دون وصولهما إلى المنصب بإحدى هاتين العصاوين. كان ذلك الهاجس الذي ألقى بثقله على النواب المجتمعين في الطائف عام 1989: العماد ميشال عون قائداً للجيش، والدكتور إدمون نعيم حاكماً لمصرف لبنان. والرجلان كانا ساعيين إلى استحقاق 1988. الأول حارب الجيش السوري وطعن في شرعية حكومة الرئيس سليم الحص، والثاني أغضب دمشق لأنه وازن في توزيع الليرة على الحكومتين فيما كانت تحضّه على أن يوصد ابواب تمويل السلطة الأخرى.
لم تكن تلك حال الأسلاف. فيليب تقلا أولهم (1963 ـــــــــ 1967). والياس سركيس (1967 ـــــ1976) واجه انهيار مصرف انترا من غير أن يستنزف الموقع كي يقفز إلى رئاسة الجمهورية، وهو في ظل قوتين، معتزلة هي الرئيس فؤاد شهاب ونافذة هي الشعبة الثانية. بعدهما ميشال الخوري (1978 ـــــــــ 1985) عمل في ظل سركيس الرئيس. فنعيم (1985 ــــ 1991) الذي مثّل في منتصف عهد الرئيس أمين الجميل الإنتقال من حكم الرئيس إلى حكم المعارضة، وكان مرشحها مع إعادة توزيع المناصب. وبعد عودة انتقالية للخوري (1991 ـــــــــ 1993) أضحى رياض سلامة في المنصب عام 1993.
حتى عام 1988، يوم وقع الفراغ الدستوري في رئاسة الجمهورية، لم يكن المنصب سلطة سياسية في يد الحاكم. كان تقلا حاكماً ووزيراً للخارجية في وقت واحد، وكان سركيس حاكماً ومديراً عاماً لرئاسة الجمهورية والرئيس الظل باسم الشهابية. وعندما انتهت ولايته الأولى عام 1973 لم ينتقم منه منافسه في انتخابات 1970 الرئيس سليمان فرنجيه، وقد غلبه بصوت واحد، فأبقاه في المنصب بعدما ضرب على طاولة مجلس الوزراء متجاوزاً احتجاج رئيس الحكومة صائب سلام والوزير جوزف سكاف، إلى أن انتخب رئيساً للجمهورية. وحده نعيم، القابض على أكياس الليرة ومفاتيح الخزائن عام 1988، أراد من مصرف لبنان باباً واسعاً على رئاسة الجمهورية. وكان قد اعلن ترشحه للرئاسة.
في وثيقة اتفاق الطائف لم يؤتَ على الشرط المقيّد لموظفي الفئة الأولى. فكان أن أحالت حكومة الحص، عشية جلسة مجلس النواب لإقرار الإصلاحات السياسية وإدماجها في الدستور، مشروع قانون دستوري ملحق بمشروع القانون الدستوري الذي كانت قد أحالته على المجلس في 30 نيسان 1990، المتعلق بالإصلاحات تلك. في المشروع الملحق أدخلت قيد التحريم إلى فقرة إضافية من المادة 49 كالآتي: «كما أنه لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها في جميع الإدارات العامة أو في المؤسسات العامة، أو في سائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم، وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم».
كان رئيس المجلس حسين الحسيني المحرّض على إضافة الفقرة الجديدة. في 19 آب 1990 جمع نواباً ودرس معهم إدخال هذا الإستثناء. وعملاً بالآلية التي تحددها المادة 77 لتعديل الدستور، أرسل الصيغة إلى الحكومة فتبنتها في مشروع قانون دستوري، أقرته مساء 20 آب في جلسة مجلس الوزراء.
اليوم التالي، 21 آب، التأم البرلمان وأقرّ الإصلاحات ورفع سيف التحريم بعدما توسّع النقاش في تصنيف الموظفين المشمولين بالحظر، وإدراج الحاكم في عدادهم.
يومذاك دار هذا الحوار بين الحسيني والنائب بطرس حرب:
«حرب: مشروع الحكومة كما هو وارد يقول: لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى أو ما يعادلهم في كافة الإدارات العامة أو في المؤسسات العامة، أو في سائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلالها». درست هذا الموضوع مع اختصاصيين في مجلس الخدمة المدنية فاقترحوا عليّ نصاً حتى يشمل كل الناس، ولا يعود هناك إشكال.
الرئيس: أعطنا النص.
حرب: «أما موظفو الفئة الأولى على اختلاف الرتب في جميع الإدارات الرسمية، ومَن هم في حكمهم من المتفرغين لوظائفهم على اختلاف أسلاكهم في المجالس أو الهيئات في جميع مؤسسات الدولة والمؤسسات العامة على اختلافها، سواء الخاضعة منها للنظام العام أو غير الخاضعة، وفي شركات الإقتصاد المختلط، فلا يجوز انتخابهم خلال قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان». هكذا تشمل الكل، وسوف أعطي بعض الأمثال ماذا يعني الفرق بين الإثنين. قلنا موظفي الفئة الاولى على اختلاف رتبهم لأن هناك رتبة أولى ورتبة ثانية. إذا قلت رتبة أولى فقط، يقول لك انا مستثنى. وعندما نقول الخاضعين في جميع الإدارات الرسمية، يعني ذلك شمول الجيش والأمن الداخلي وكل الإدارات العامة، وعندما نقول المتفرغين في وظائفهم على اختلاف أسلاكهم في المجالس أو الهيئات في جميع مؤسسات الدولة والمؤسسات العامة على اختلافها سواء الخاضعة منهم للنظام العام... ما هو النظام؟ في المرسوم 4517 تاريخ 1972 يقول: مؤسسات النظام العام يعني المؤسسات العامة مثل مصرف لبنان وكل المؤسسات التي مثله. مصرف لبنان مستثنى من النظام العام للمؤسسات، ومجلس الإنماء والإعمار أيضاً مستثى. وعندما نقول: كل المؤسسات المنشأة قانوناً وغير الخاضعة، فإنها تتضمن مصرف لبنان ومجلس الإنماء والإعمار، وأيضاً كل الناس. النص الذي اقترحته مدروس من الإختصاصيين كي لا يستطيع أحد في الفئة الأولى أو ما يعادلها، سواء في الجيش أو في القضاء أو الإقتصاد او في شركة مختلطة، أن يقفز على القانون ويفسّر الدستور وكأن له حقاً في أن يترشح.
الرئيس: المبدأ متفق عليه، لكن هل هذا النص المقترح يؤدي الغاية المطلوبة (...) أريد أن ألفت النظر فقط، حضرة الزميل، المبدأ أنه لا يجوز لأحد على حساب الدولة او على حساب المكلف اللبناني أن يعمل سياسة لنفسه حتى يصل إلى رئاسة الجمهورية. هذا المبدأ ليس لسدّ الطريق على كل الناس. هناك أناس ليس في أيديهم سلطة كي يستغلوها، حتى نمنعهم من أن يصلوا إلى رئاسة الجمهورية. من الواضح أننا تكلمنا في هذا الموضوع في الطائف نتيجة معاناتنا والطريقة التي حصلت في السابق. عنينا بعض الوظائف المحددة، قائد الجيش، حاكم مصرف لبنان. عنينا هذه الوظائف التي لرئيسها إمكان توظيف مقدرات الدولة لخدمة مصالحه الخاصة للوصول إلى رئاسة الجمهورية. أما إذا كنا نتعمّد توسيع القاعدة، فيوجد بين الذين سنمنعهم أناس ليس في أيديهم سلطة كي يستغلوها، ويمكن أن يترشحوا.
حرب: نحن قصدنا أن تشمل ولا نريد أن نسمّي قائد الجيش ولا حاكم مصرف لبنان.
الرئيس: أنا أسمّي يا أخي. في الطائف سمّينا أو ما سمّينا؟
حرب: لا، أنا أقول في النص ما سمّينا.
الرئيس: بالضبط. لم نضع نصاً في الطائف. اتفقنا في ما بيننا على هذا الموضوع».