strong>أسامة القادري
• حيث لا مدرسة ولا مياه للشرب... بل جامع وكنيسة

لا جديد في الحديث عن القرى اللبنانية المهملة من الدولة... لكنه يبقى مطلوباً خصوصاً حين تكون لهذه القرى ميزاتها، كما هي حال بلدة «الدكوة» التي تشكل مكاناً مثالياً للعيش المشترك بين مسلمين ومسيحيين من جهة، وتحوي الكثير من الآثار التاريخية من جهة ثانية

لم تنفك الحاجة الستينية أم سامي حسين تكرّر ترحيبها ودعوتها لضيوفها (الأخبار) إلى شرب الشاي أو أي شيء بارد لكونها تعرف أن الرحلة الى بلدتها «الدكوة» ليست سهلة... إضافة إلى افتقارها إلى الكثير من مقوّمات الحياة.
على رغم ذلك تستغرب أم سامي السؤال عن سبب عيشها في بلدة لا يوجد فيها سوى دكان صغير، وعدم نزوحها كما تفعل الغالبية، فتجيب: «الحياة في الدكوة حلوة لأنها مشتركة بين الإسلام والمسيحيين». تضيف وهي ترفع يدها كأنها تقسم يميناً لم تنطقه: «نقسم الرغيف بالنص، كلّنا إخوة يا ابني»... لكنها تكشف أيضاً، بلكنة أبناء البلدة: «بهالضيعة ما في إلا المتلي الكبار بالعمر.. الشباب فلّت تدوّر على مستقبلها برّا».
تتألف بلدة الدكوة من نحو خمسة وثلاثين بيتاً تعيش فيها عائلات مسيحية وإسلامية منذ زمن طويل، ويتلاصق فيها الجامع والكنيسة حيث يمارس الأهالي شعائرهم الدينية بعيداً من «الكليشيهات» الخاصة بالوحدة الوطنية.
ويعود سبب عدم تزايد سكانها الى الهجرة المستمرة المتوارثة بين أبناء البلدة منذ القرن الثامن عشر الى القارة الأميركية. أما الهجرة المحلية (النزوح) إلى بيروت وغيرها من المدن اللبنانية، فلا يقتصر هدفها فقط على الهرب من الإهمال والحرمان اللذين تعانيهما البلدة، إذ يتعداهما إلى البحث عن مقاعد دراسية لأطفالهم تبقى أقلّ كلفة من أعباء النقل التي يدفعها المقيمون فيها لإرسال أبنائهم إلى مدارس القرى المجاورة....
هذه المعلومات ـــــ الشكاوى هي المتداولة على ألسنة أبناء البلدة الذين يقترحون للاستزادة، الحديث مع جورجي فاضل: أبي فريد. هذا الرجل السبعيني يعدّ بالنسبة إلى أبناء الدكوة الأكثر دراية بتاريخ بلدتهمنستمع إلى النصيحة، لنعرف من أبي فريد أن عمر البلدة 300 سنة بسكانها وعائلاتها الموجودة حالياً، كاشفاً وجود الكثير من الآثار التاريخية التي تؤكد هذه الحقيقة، مثل القصر الروماني والمقابر المحفورة في الجبل الصخري المشرف على البلدة. أما ملكيتها وملكية الأراضي المجاورة لها فكانت تعود الى الحاكم التركي رشدي باشا، قبل أن يبيعها الأخير الى أبناء المنطقة.
وعن طبيعة الحياة التي يعيشها الأهالي يقول أبو فريد «ورثنا الزراعة أباً عن جد، أما اليوم فهي لم تعد تطعم خبزاً... فتحوّلنا إلى تربية الدواجن التي توفر مردوداً أفضل قليلاً». وعن أبناء البلدة يقول «لا يعيش فيها غير المتقاعد أو المزارع»، مقدّماً الأعذار لمن يغادرها «لأنه لم ير مياه الشفة منذ ثلاثين عاماً».
كيف؟ يشرح: «منذ عشر سنوات أقدمت الدولة على حفر بئر ارتوازية للبلدة واكتفت بذلك وما زلنا ننتظر إلى اليوم إنجازه فعلياً وتشغيله لتخفيف العبء علينا». وإن شبكة «قساطل» المياه الموجودة في البلدة الآن أُنجزت منذ خمسة عشر عاماً على كاهل وحساب المواطنين من دون مساعدة أي جهة رسمية أو اجتماعية، «كل أهل البلدة، كبيرها وصغيرها، شاركوا في الحفر وشراء القساطل ومدها». وهنا يكشف عن مشكلة إضافية: «لا تخضع بلدتنا، بسبب صغرها، لقانون البلديات، وهي تابعة للقائمقام في البقاع الغربي».
لا يختلف رأي ابن السبعين عاماً عن رأي إيلي فاضل الثلاثيني. الأخير يبدأ كلامه بالحديث عن جمال بلدته من حيث مناخها وبساطة أهلها وعيشهم المشترك، «منذ عرفت الحياة لم أسمع بحصول أي مشكلة بين أبناء البلدة ولا حتى بين إحدى الطائفتين... كلٌّ يعرف ماذا يريد من الآخر». الأمر الوحيد الذي ينغّص الهدوء الذي يعيشونه هو الحرمان الذي يعانونه من جهة، وانعدام العمل الأهلي الذي يمكنه المساهمة في تنشيط الحياة والقيام مقام البلدية غير الموجودة. يقول إيلي «أقلّه لتوفير مياه الشفة»، ويتابع «أنا لست مع النظام السوري، ولكن كلمة حق يجب أن تُقال، عندما كان الجيش السوري في السهل، وعرف الضباط أن البلدة لا تصلها المياه صاروا يمدّون بين الحين والآخر البلدة بالمياه عبر الصهاريج»...
ويشير بولس صوفية إلى أنه منذ الانسحاب السوري من السهل (أي منذ نحو عشر سنوات) عاد الأهالي إلى شراء المياه تارة، والاستعانة ببئر جارهم أبي فريد تارة أخرى.
ويرى صوفية أنه كي يتوافر لدى المقيم في البلدة كل ما يحتاج إليه فلا بد من اقتناء «السيارة التي هي من الأساسيات لاستمرار الحياة لأن البلدة بعيدة عن الطريق العام للبقاع الغربي». ويؤكد أنه لولا راتب تقاعده من الجيش لما بقي في البلدة إذ «لا يقتصر الحرمان والواقع الأليم الذي نعيشه على انقطاع المياه عنا، بل يتجاوزه إلى ما هو أهم، ونعني تعليم أبنائنا»، متسائلاً باستهجان وعتب «عندما لم يكن عدد البيوت يتجاوز العشرة كانت تنعم البلدة بمدرسة أقفلت في عام 1976 بسبب الأحداث، وهي لا تزال مقفلة إلى اليوم»يصل عدد طلاب البلدة الموزعين على القرى القريبة من «الدكوة» إلى سبعين طالباً وطالبةً يكلّفون أهاليهم مصاريف تثقل كاهلهم بـ«أجرة النقل البالغة 500 ألف ليرة». وهناك تلاميذ يتعلّمون في زحلة وجوارها، ما يجعل الكلفة أكبر لأن المسافة أبعد، وكرّر صوفية ما سبق أن قاله: «لو لم أكن متقاعداً من الجيش لما بقيت في البلدة بل لكنت تركتها كما تركها إخواني لضمان مستقبل أبنائهم وبناتهم».
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حالة الهجرة، أو بالأحرى الهروب من واقع «الدكوة» المهملة، تركت بصماتها على حياة قلة من الشباب الباقين في القرية.
فهذه سناء حسين المتخرجة منذ سنتين في كلية الآداب (فلسفة)، تعمل في محل للتجميل في منطقة بعيدة لكونها لم تجد وظيفة تتعلق باختصاصها. تقول: «عملي الحالي بالكاد يكفيني أجرة تنقلاتي من القرية الى مكان عملي... ولكن رضيت بالعمل من أجل الخروج من جو البلدة الساكن». تتابع بألم «لا حياة في قريتنا بالنسبة إلى الشباب»، وترى أن بقاءها فيها جريمة بحق مستقبلها، إلا أنها مجبرة على البقاء لكونها فتاة والمجتمع القروي لا يرحم... الملل الذي تعيشه سناء لعدم وجود صبايا من عمرها، ولانعدام وسائل التسلية والترفيه يوقعانها في روتين يومي تراتبي، لا تقدر على تغييره قيد أنملة.
أما وليم الغجر فله رأي آخر قد يكون ناجماً من تحلّيه بالصبر. وليم درس هندسة ميكانيك الطيران، ولكنه يعمل مرشداً سياحياً. يحفظ عن ظهر قلب السيرة التاريخية لبلدته وقصرها الروماني الذي يشرح عنه بإسهاب ومن دون ملل. ثم يبادر الى القول بلهجة شاعرية وحب عميق لقريته: «علاقتي مع بلدتي علاقة عشق، على رغم اختلال التوازن بيني وبينها». ويتابع «أنا أقدّم لها ما عليّ ولا آخذ منها سوى السكون»... يضيف «أنا وكم شاب بالبلدة نجمع الأوساخ من شوارعها، حتى تبقى نظيفة وحلوة، واجبنا لأن ما في بلدية»، وهو يلوم كلّ من يفكر بالابتعاد عن البلدة «أولاً، لأنّ الحركة فيها هي التي قد تغيّر الحال من الأسوأ إلى الأحسن، وواقع البلدة الحالي سببه عملية تفريغها من الشباب الهاربين إلى الضجيج». وسأل «لماذا لا يبقون هنا ويخلقون الحياة والضجيج»، لكنه لم ينس الإشارة إلى إهمال الدولة، وخصوصاً لجهة عدم وجود مدرسة، وهو الأمر الذي يفرض النزوح: «المدرسة يجب أن تكون موجودة قبل الأكل والصلاة».
ما يحبه وليم في البلدة من سكون، هو ما يزعج ربيع حسين ابن العشرين عاماً الذي يقدّم رأياً آخر في ما يتعلّق بهدوء البلدة وغياب المشاكل فيها، «ما في مشاكل لأنو ما في شباب... نحن نعدّ على الأصابع..»، وهؤلاء يذهبون يومياً الى بلدتي غزة أو جب جنين قاصدين المطاعم والبلياردو.
رأي ربيع لا يختلف عن رأي مارك أبوعني الذي يمايز بين حياة المقيمين في «الدكوة» وحياة أولئك في القرى المجاورة. «ما في عنا شي غير دكان وكنيسة وجامع... لو قادر سافر ما بضل هون عذّب حالي». هناك الكثيرون وجدوا أن الحلّ هو في تعليم أولادهم وتأمين مستقبلهم عبر الهروب من البلدة الى أماكن أخرى من القرى البقاعية.



مدرسة... للانتخابات فقط

ترفض أم حسين الانتقادات التي يواجهها من يغادر من أبناء البلدة، وتشرح أن السبب الرئيسي الذي دفعها إلى النزوح منذ ثلاثين عاماً هو عدم وجود مدرسة. أم حسين تقيم اليوم في منطقة زحلة، وتقدّم مقارنة حسابية بين تكاليف نقل أبنائها من «الدكوة» إلى مدارس القرى المجاورة كالمنارة وجب جنين، وبين تكاليف إيجار المنزل في زحلة، «الفارق كبير فعلاً، ويبقى إيجار البيت في زحلة أهون علينا من أجرة نقل سبعة طلاب الى المدارس».
لكن المختار ريمون الغجر مصرّ على لوم أبناء بلدته الذين يغادرون ولا يحاولون العودة، «سبعون في المئة من أهالي البقاع الغربي هاجروا، لكن أهل ضيعتنا يختلفون عن العالم كلها بأنهم يذهبون ولا يعودون». على رغم ذلك فهو لا يبرّر تقصير الدولة ونسيانها لهذه المنطقة... إذ يقول ضاحكاً «عندنا مدرسة للانتخابات فقط، لا تفتح أبوابها إلا عند كلّ استحقاق انتخابي»، مطالباً بإنجاز البئر الذي حفر على نفقة مجلس الجنوب منذ عشر سنوات ولا يزال الأهالي ينتظرون استكمال المشروع ومدّ البلدة بشبكة نظامية... ولا ينسى المطالبة بتنشيط العمل السياحي في المنطقة ومواقعها الأثرية.