جان عزيز
فيما بدا لجميع القوى المعنية داخلياً وخارجياً أن الفراغ الرئاسي دخل في مرحلة الاستدامة الزمنية النسبية، على مدى الأشهر لا الأسابيع على الأقل، وفيما ظهر لهؤلاء أيضاً أن هذا المدى مرشح لانهيارات على الطريق قد تؤدي إلى نسف الكثير من الجسور الباقية، تحركت المساعي الدبلوماسية مجدداً للبحث في ما يمكن القيام به من جانب الجهات الدولية الراعية للوضع اللبناني.
وتؤكد أوساط مطّلعة على حركة سفراء اليومين الماضيين، أن الخطاب المعلن للدبلوماسيين الناشطين، لا يزال محاولة إخراج الأزمة من مأزقها وترجمة اقتراح الحل المعلن عبر ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية. غير أن اللغة الجدية لتفاوض هؤلاء تبدو مختلفة عن الظاهر، ومركّزة على مسألتين اثنتين: كيف ندير فراغ الأشهر المقبلة؟ وكيف نضمن عدم انزلاقه في لحظة ما إلى وضع لا يعود ممكناً معه ترميم الحلول المطروحة ولا تنفيذها. وتشير الأوساط المذكورة إلى أن النموذجين الأبرزين لهذه الحركة مثّلتهما الدبلوماسيتان الأميركية والمصرية في اليومين الماضيين.
السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان، رغم تحديده موعداً نهائياً لمغادرته لبنان، بعد إقامته حفلاً وداعياً في الخامس عشر من كانون الثاني الجاري، لا يزال يسعى شكلياً إلى إقناع الأطراف المختلفة بالحل المطروح. حتى إن فيلتمان في آخر تسويقاته لدى المعارضة، بدا أقرب إلى وجهة نظرها، مبدياً حرصه الشديد على موقعها ورصيدها ودورها في الحل. فقال السفير الأميركي لمحاوريه من المعارضين: في النهاية العماد ميشال سليمان أقرب إليكم منه إلى الموالاة. وبالتالي فإن سيركم في الحل المقترح عبر انتخاب قائد الجيش، ولو من دون أي اتفاقات أو ضمانات مسبقة، سيعطيكم في المرحلة المقبلة فرصاً متقدمة بالنسبة إلى الموالاة. ولذلك أنصحكم بالقبول. ولم ينسَ فيلتمان الذهاب أبعد في هذا الحرص، مشيراً إلى أن دخول المعارضة في مشروع الحل المطروح، سيجعل الموالاة أمام امتحان القبول أو الرفض، وبالتالي سيعيد المجتمع الدولي إلى موقع وسطي حيال طرفي الصراع في لبنان، بدل أن يكون مثلما هو الآن أقرب إلى حكومة السنيورة، وفق قراءة السفير الأميركي.
غير أن هذه اللغة العلاجية التي تقدمها الدبلوماسية الأميركية في بيروت علناً، تقابلها من الطرف نفسه وأقل علانية، لغة أخرى يمكن وصفها بالوقائية، إذ تؤكد أوساط المعارضة أن الجهات الدبلوماسية الأميركية دأبت في الأيام الماضية على تتبّع أخبار ما تنوي المعارضة القيام به والتحضيرات التي قيل إنها تعدها لكسر حلقة الفراغ المستدام في حال إقفالها واستكمالها. وحرصت الجهات نفسها على الاستفسار عمّا إذا كانت المعارضة في وارد التوجّه بأي عمل اعتراضي سلمي، نحو أي من المرافق الحدودية للبلاد، وتحديداً تجاه مطار بيروت الدولي. حتى إن هذه الجهات أكدت للأوساط المعارضة أن الرئيس الأميركي جورج بوش لا ينوي إطلاقاً إدراج بيروت في برنامج جولته الشرق أوسطية المقبلة هذا الشهر، في إشارة إلى أن واشنطن حريصة على عدم إعطاء أي سبب أو ذريعة وفق وجهة نظرها، لقيام تحرك للمعارضة في اتجاه مطار بيروت، قد يكون قاتلاً بالنسبة إلى فريق الموالاة.
أما من جهته، فالتحرك المصري يبدو أكثر غوصاً في التفاصيل والدقائق وعمق المسائل الخلافية العالقة. ذلك أن السفير المصري لم يكتفِ في حواراته الأخيرة بالمباحثات الشكلية، بل ذهب صوب النقاط الأكثر حساسية، وخصوصاً لجهة جسّ النبض حيال النقاط الآتية: أولاً إلى أي مدى يمكن لاقتراح الحل الراهن أن يظل صالحاً للتنفيذ والترجمة، في شكل مضمون الربحية، بحيث لا تصير أثمانه وأعباؤه أكثر من إيجابياته. ثانياً، يسأل السفير المصري استطراداً، في حال تعثّر الخطوات، عن كيفية إدارة فترة الفراغ المرشحة للتمديد القسري. ويذهب أكثر في بحث التفاصيل، وخصوصاً لجهة ما يمكن العواصم العربية المعنية أن تفعله للمساعدة في تهدئة الفراغ، وأن تتجنّبه لعدم دفعه نحو الانفجار.
ورغم هذه المقاربة المباشرة، لا ينسى السفير أحمد البديوي العودة إلى البحث مع محاوريه في مسألة الحل النظري المفترض. ويلاحظ في هذا السياق أن القاهرة تدرك حقيقة الثوابت والمتغيّرات في مواقف الأطراف المتقابلة. فهي تشير بلهجة من «الدالّة» السياسية والمعنوية، إلى أن مسألة آلية تعديل الدستور قابلة للحل، رغم كل الضجيج المثار حولها. وكذلك مسألة قانون الانتخابات النيابية الجديد، لجهة الإجماع على اعتماد القضاء دائرة انتخابية. لكنها تتوقف عند معضلة الحكومة الأولى للعهد المقبل. وهي في هذا المجال تحاول جسّ النبض حيال نظرية سحب نصاب الأكثرية من الموالاة، وسحب أقلية التعطيل من المعارضة، عبر إعطاء رئيس الجمهورية «الصوت الوازن». وهو ما بات معروضاً بصيغة 14 ـــــ 10 ـــــ 6.
إلى ماذا ستفضي كل هذه الحركة؟ أحد الوزراء الخبراء في المسألة وخلفياتها المعقّدة، يؤكد أن كل الجهد النسبي المبذول حالياً، هو لإدارة الفراغ وضبط انهياراته الممكنة. أما ما بقي فمن باب «الواجبات» الدبلوماسية.