يحمر ــ كامل جابر
حوّل سليمان داوود داوود حيزاً من بيته في بلدة يحمر (الشقيف) إلى محترف للأشغال اليدوية الخشبية وفنون النحت والحفر المتفرعة منها، مكرساً على مدى 33 عاماً خبرة اكتسبها من أفريقيا، وصنعة تؤمن بعض الدخل، جاعلاً من الحطب والشجر اليابس لوحات وتحفاً للزينة.
ربّ العائلة المكونة من خمسة أولاد وأمهم، لم يستطع أن يكمل الطريق وحده، بعدما شبّ ابنه البكر، وتمكن منه «الضغط»، فكوّن فريق عمل منه وزوجته وابنه محمد، من دون أن يُشرك البنات في «التعب»؛ وصارت الحرفة اليوم مصدر عيش العائلة بأكملها.
وبين العمل في مصالح الجيش، والسفر المتقطع إلى أفريقيا، كلما تأزمت الأوضاع، تمكن سليمان من التعرف إلى سنغاليين في ليبرفيل ــــ الغابون، يمارسون حرفة الحفر على الخشب وصناعة التماثيل؛ وراح يراقب نشاطهم وخفتهم في الحفر على الخشب والاستفادة من جذوع الأشجار، «وبعدها قررتُ تنفيذ بعض الأفكار التي تعلمتها من السنغاليين، واخترتُ بدايةً الأعمال الإسلامية، كالآيات القرآنية وبعض الرموز المعمارية والمساجد؛ أرسم وأخطط بالقصبة، ثم أحفر بالمنشار اليدوي «الشعري» الدقيق والرفيع. ووجدت تسويقاً لأعمالي وطلباً عليها، ما شجعني على الانصراف التام إليها».
ينوع سليمان داوود في اختيار الخشب لأعماله التي لم تقتصر لاحقاً على آيات القرآن، «بل تعدتها إلى الكراسي والطاولات وقواعد القرآن؛ وأهمها خشب الزيتون والسويد والموغينو، ثم أضفت إليها مواضيع مسيحية كآيات الإنجيل ولوحات العشاء السري؛ وعندما وجدت أن هذه الأعمال باتت تدرُّ عليّ بين 600 و700 دولار شهرياً، قررت أن أبني بيتي في يحمر، وبدأت من مبلغ مئتي دولار، في وقت حافظت فيه على الحرفة، بل وسعتها وتفرغت لها تماماً بعد تقاعدي من الوظيفة في عام 1987».
تطورت «عدة الشغل» عند سليمان داوود وصارت أكثر حداثةً، إذ تخلى في السنوات الأخيرة عن معظم الأدوات اليدوية، عدا ما يحتاج إلى المطرقة أو إلى جهد اليدين. وحينما بلغ بكر أولاده محمد الثامنة من عمره، بدأ يتقرب من حرفة والده، إلى أن صار في السابعة عشرة، وأضحى مبدعاً فيها ويحفظها عن ظهر قلب، فانضم مع والدته ابتسام كريك من صريفا إلى الوالد، وكوّنوا معاً فريقاً متكاملاً يعمل أحياناً 18 ساعة في اليوم، وعلى مدى أيام الأسبوع. وباتت الأعياد وحدها التي توقف الورشة، لكن ليس لأكثر من يوم.
يتغنى داوود بالعديد من الأعمال التي نفذها، مثلما يفرحه أن كثيراً مما أنتجه يزين واجهات البيوت والمكتبات والمساجد، «ليس في الجنوب فحسب، بل إن العديد من المعارض في بيروت تطلب مجموعات من إنتاجنا، كالخشبيات التراثية القديمة، والقلاع والحصون وتجسيد بعض المنازل، فضلاً عن شلالات خشبية مجهزة بإنارة، ومجارٍ للمياه لزوايا البيوت والحدائق، وكراسٍ من خشب السويد والقش و«ستاندات» للمصاحف والكتب وطاولات للحدائق من الخشب غير المصنع ولوحات قرآنية». ولم يداوم على صناعة التماثيل «لأنها من المحرمات في بيئتنا، ولا أريد أن أوجع رأسي».
يكتفي داوود بما تيسر ثمناً لأعماله «وأنا أبيع بسعر الجملة، ومعظم ما أعمله لإرضاء طموحي ولسد بعض المصروف؛ وقد شاركت في العديد من المعارض من دون الإشارة إلى اسمي، حتى هنا في بلدتي يحمر، إذ أعددت جناحاً مميزاً في المهرجان السنوي من دون أن أنسبه إليّ، لأن أبناء البلدة يعرفون تماماً أن هذا العمل هو عملي؛ لكن هناك مؤسسات كبيرة تستخدم لوحاتي وتبيعها من دون الإشارة إلى صانعها؛ وكنت لا أقف عند هذا الأمر، لأنني أولاً وأخيراً أريد أن أعيش».
راودت داوود أفكار كثيرة عن إنشاء مؤسسة أو معرض دائم في مدينة النبطية «إلا أن أوضاعي المادية لم تسمح بذلك، ولم أجد في المقابل من يقول تعالَ لنساعدك على إنشاء مؤسسة أو معرض، حتى من يعمل محلياً في المجال التراثي».
ويرى داوود أن منحاه في الأعمال اوفيما يطيح البحث عن الحطب لمواقد الشتاء الأشجار المعمرة وبالأحراج الخضراء، تبحث حرفة سليمان داوود عن الحطب اليابس لتدوِّره وتصنعه لوحات للزينة وقوالب رائعة تعمّر في البيوت، وهي تحمل نكهة الذاكرة والحنين إلى الماضي الجميل.