نقولا ناصيفانقضى البارحة الشهر الرابع لشغور رئاسة الجمهورية من غير أن تبدو ثمة آمال بحل قريب بعد قمة دمشق. بعدما ارتسمت إلى حدّ ما الملامح التي ستكون عليها القمة العربية نهاية هذا الأسبوع، والتغيّب المتعمّد لزعماء عرب، بات الوضع اللبناني معلّقاً على التداعيات السلبية التي يمكن أن تترتب على نتائج القمة. وهكذا يعيد طرفا النزاع الداخلي، الموالاة والمعارضة، ترتيب المواجهة السياسية التالية وعدّتها. إذ لن يكون في وسعهما إلا إمرار الوقت في انتظار معرفة ما ستؤول إليه التوازنات العربية ـ العربية في الأسابيع المقبلة.
لن تخرج دمشق من قمتها معزولة تماماً، إلا أنها لن تنجح كذلك من خلالها في فك العزلة العربية عنها. ستقف دول عربية إلى جانبها بسبب دور تضطلع به هذه الدول في العلاقة مع إيران كقطر وسلطنة عمان. وستقف أخرى على حافة الحياد تتصرّف بلامبالاة ظاهرة شأن دول المغرب ودول خليجية والعراق لأسباب مختلفة، أبسطها بالنسبة إلى بغداد أن لا يستعر فيها النزاع العربي ـ العربي، والعربي ـ الإيراني على أرضها. وستجبه دول عربية سوريا من جراء موقفها من لبنان وتسبّبها بفراغ دستوري في رئاسته كحال السعودية ومصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية وبعض دول الخليج.
على نحو هذه المعادلة، لن تعدو القمة العربية كونها محطة في الصراع الإقليمي الذي باتت تتجاذبه الأنظمة العربية. ولا يعني مستوى التمثيل والحضور في القمة عندئذ إلا أحد مظاهر الشرخ العربي. لا يعطل انعقادها في المكان والزمان، ولا يقلل أهمية البيان الختامي بعد المشاورات الجانبية، ولن يفجّر علناً الخلافات على الملفات الساخنة، ولن يفقد الرئيس المضيف بشار الأسد حقه في ترؤس الدورة الجديدة للقمة ولا في أن يكون رئيس القمة العربية طوال هذه السنة. والواضح أن الإشارات والإيحاءات المتبادلة المبكرة إلى خفض دول عربية رئيسية مستوى تمثيلها في القمة ـ لا مقاطعتها ـ يعكس سلفاً تداعيات سلبية في العلاقات العربية ـ العربية في مرحلة ما بعد تقويم نتائج قمة دمشق، طبقاً للسؤال الآتي: هل أنهكت القمة الرئيس السوري، أم عوّمت نظامه المحاصر بخلافات مع بعض جيرانه العرب ومع المجتمع الدولي؟
وعلى أهمية غياب زعماء عرب على صلة مباشرة بالملفات الساخنة والأكثر استدراراً للتناقضات العربية ـ العربية، كملفات لبنان وفلسطين والعراق والعلاقات العربية ـ الإيرانية، إلا أن دمشق تقارب تحدي القمة على أنه في انعقادها على أراضيها، وهي تدرج تحديها هذا في سياق الضغوط الدولية والأميركية للحؤول دون هذا الانعقاد، أو في أحسن الأحوال جعله من خلال التغيب يفتقر إلى الجدية والصدقية والإجماع العربي. مع ذلك، تبعاً للمطلعين، تدرج موقفها من قمتها وفق معطيات أبرزها:
1ـ بإزاء ما يتردّد عن تغيّبهما المقصود عن قمة دمشق، فإن الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي الملك عبد الله ليسا من الزعماء العرب المثابرين على الحضور الشخصي في القمم العربية المتتالية. وفي الغالب تتفاوت أسباب مشاركة كل منهما عنها تبعاً لمبررات، بعضها المعلن يتصل بانهماكات داخلية رغم الموعد الدوري للقمة. ومنذ اعتمدت قمة عمان عام 2001 الانعقاد الدوري لاجتماع الجامعة العربية على مستوى الملوك والأمراء والرؤساء كل سنة، غاب مبارك عن قمتي بيروت (2002) والخرطوم (2006)، وحضر قمم شرم الشيخ (2003 على أرضه) وتونس (2004) والجزائر (2005) والرياض (2007). بدوره عبد الله ولياً للعهد ثم ملكاً، حضر قمتي بيروت وشرم الشيخ وتغيّب عن قمم تونس والجزائر والخرطوم، إلى أن ترأس قمة الرياض على أرضه.
وهكذا لم يشارك مبارك وعبد الله معاً في القمم الست هذه إلا عندما انعقدت إحداها على أرض أحدهما.
2ـ لا تنظر سوريا إلى فشل قمتها على أرضها على أنه فشلها هي، بل تقاربه على أنه فشل الجامعة العربية وتعريضها للتفكك والانقسام على نفسها، وهو المبرّر الذي يجعل كل الدول العربية تشارك فيها، إلا أنها تستخدم في المقابل حق المناورة وردّ التحية بمثلها في خفض مستوى الحضور كرسالة سياسية ذات دلالة. وهو الأمر الذي حمل الأمين العام للجامعة عمرو موسى على الإعلان قبل شهرين على الأقل أن القمة تنعقد في مقرّها وزمانها المقرّرين. وهي كذلك الأسباب التي جعلت دولاً عربية تخفض لهجة مخاطبتها دمشق وتلويحها أولاً بمقاطعة القمة ما لم يُنتخب رئيس جديد للبنان، ثم قولها إنها لا تشارك في قمة لا يدعى إليها لبنان، ثم تسليمها في نهاية المطاف بالمشاركة وحصر الأزمة اللبنانية ببعدها الداخلي.
بذلك تكون دمشق قد نجحت، في نظرها على الأقل، في تحييد انعقاد القمة العربية كاستحقاق دوري عن أزمة العلاقات الثنائية المتردية بينها وبين ودول عربية أخرى. لم تفقد أيضاً ميزة رئيسية في إدارتها الإعداد لقمة دمشق، وهي أنها ـ كنظام ـ لا تزال قادرة ومؤهلة، كسواها من الدول العربية غير المشتبه في قيامها بدور سلبي لها في لبنان، لجمع العرب تحت مظلة رئاستها. نجحت كذلك، وهي تقترب من انعقاد القمة، في تخفيف اتهامات عربية سيقت إليها في الأشهر المنصرمة، سواء بالنسبة إلى مسؤوليتها عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو وضعها تحت الشبهة الدولية من خلال تقارير لجنة التحقيق الدولية واستدعاء مسؤولين سوريين إلى التحقيق، واتهامها بعرقلة نشوء المحكمة الدولية في اغتيال الحريري. مع ذلك لم تُدَن على دورها في لبنان على طريقة واشنطن وباريس والأمم المتحدة، ولم يحمّلها جيرانها المتخاصمون معها مباشرة تبعة الأزمة الدستورية اللبنانية، حاضّين إياها على التعاون لانتخاب رئيس جديد للبنان، وعاملين على انضمامها إلى الإجماع العربي على تنفيذ مبادرة الجامعة العربية.
تقلّل دمشق، في تقدير المطلعين على موقفها، وطأة ما ينتظر قمتها نهاية الأسبوع الجاري. ليست هذه المرة الأولى التي يشترك زعماء عرب في قمة بعضهم على طرف نقيض من البعض الآخر. لم تكن علاقة سلفي مبارك وعبد الله، الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل، في عقد الستينيات أحسن حالاً مما بين المملكة وسوريا اليوم، ولا بين رأسي النظامين البعثيين في العراق وسوريا، ولا بين مصر وسوريا في نهاية السبعينيات بعد إخراج الأولى من الجامعة العربية، ولا بين المملكة وسوريا على لبنان من النصف الثاني من السبعينيات حتى عام 1989. في القمة العربية الأخيرة لعبد الناصر عام 1970 على أثر أحداث الأردن انتفض فيصل غاضباً، وقد وجد نفسه يتوسّط ملك الأردن حسين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وكلاهما يضع مسدساً على خاصرته.
مع ذلك كان العرب جميعاً يحضرون قممهم.