جرت العادة مع كلّ اكتشاف أثري في بيروت أن يعود الجدل: كيف نحافظ على الآثار؟ وغالباً ما كانت أعمال الجرف تسبق التوصل إلى حلول مرضية. المشكلة ذاتها تتكرّر اليوم في الصيفي ــ الأشرفية مع اكتشاف حمامات رومانية على أرض ملكيتها خاصة وتتحضّر لبناء برج عليها
جوان فرشخ بجالي

حوض دائري يزيد قطره على المترين محفور في الغرانيت. أرضية من الفسيفساء والرخام الأبيض. غرف أفران تسخين المياه... إنه الحمام الروماني الثالث في بيروت، وقد عثر عليه علماء الآثار خلال حفريات الإنقاذ في العقار رقم 616 في منطقة الصيفي. «حمامات تعود إلى بداية القرن الثاني الميلادي، وهي تابعة إلى المجمّع الديني المؤلّف من معبد كبير وغرف وأقبية اكتشفت في السنة الماضية» كما يؤكد أسعد سيف، مسؤول الحفريات الأثرية في المديرية العامة للآثار. يضيف: «خلال الأيام الماضية، عُثر على القسم الساخن من الحمام Caldarium)) حيث الحوض الدائري Labrum)) الذي كان تستعمل مياهه الباردة لترطيب الأجساد خلال الحمام الساخن».
ومن المعروف أن هندسة الحمامات التركية تعدّ نسخة عن الرومانية ـــ الإغريقية التي توازي اليوم منتجعات الحمامات المعدنية SPA)). وكانت مقسّمة إلى ثلاث غرف أساسية: غرفة حرارتها باردة، وأخرى متوسطة الحرارة والثالثة ترتفع حرارتها كثيراً، بحيث تشبه السونا، فيمرّ الزائر من البارد إلى المتوسط الحرارة إلى المياه الساخنة. وبعد التدليك والراحة، يعيد الطريق نفسها... وكانت أرضية الحمامات مغطاة بالرخام أو الفسيفساء، وقد عثر العلماء في الصيفي على أرضية الغرفة المتوسطة الحرارة، وهي مغطاة بالرخام الأبيض الذي استعمل ليغطي الفسيفساء القديمة.
تجدر الإشارة إلى أن الأرضية مهمة جداً في الحمامات الرومانية، إذ عبرها يُسخّن المبنى ككل. فهي مبنية على فرن أرضي Hypocauste)) مبني بالطين النضج ومؤلف من أعمدة صغيرة يمرّ الهواء الساخن عبرها، وهي مرتبطة بالفرن الأساسي. ويقول سيف إنه اكتشف «الفرن الأساسي وسيجري في الأيام المقبلة الكشف على الأعمدة الطينية».
هذا الاكتشاف الذي يفترض أن يعدّ خبراً ساراً، يعيد طرح معضلة بيروت القديمة ـــ المعاصرة: هل تجب المحافظة على الآثار بعد انتهاء عملية التنقيب أم إزالتها؟ والإجابة قد لا تكون سارّة إذا تذكّرنا أن القرار شبه الدائم حتى الآن هو الجرف.
لكن بعيداً من التشاؤم، يكفي التذكير بالحلّ الذي اعتمد عالمياً لمشكلات مماثلة، وهو المحافظة على الآثار. وهو حل ممكن في حالة الآثارات المكتشفة حالياً في الأشرفية، بل يمكن القول إنه ليس ممكناً فحسب، بل يصبّ في مصلحة مالك العقار وصاحب المشروع الاقتصاديةللمحافظة أوجه عدة، أفضلها، بحسب مهندسين مختصين، ترميم الآثار ودمجها في المباني الجديدة، المحافظة عليها في إطارها الحالي، أي كموقع أثري. وإذا استحال هذا الأمر يبدأ البحث عن أفضل طريقة للمحافظة عليها في مكانها، لكن كجزء من البناء، وهذا ما يبقي على طابعها الأثري الحقيقي.
أما إذا استحال إتمام البناء بسبب وجود الآثار، فيمكن عندها «رفعها» بشكل علمي، على أن يعاد إدخالها لاحقاً في المبنى. صحيح أن هذه الطريقة هي الأسوأ لتسوية وضع الآثار لأنها تخسر عندها 40% من قيمتها التاريخية وتتحوّل إلى مجرد شاهد على التاريخ في مبنى حديث، لكنها تبقى خياراً أفضل من عدم المحافظة عليها نهائياً.
وإذا استعرضنا الحلول الممكنة، نلفت النظر إلى أنه إذا صنّفت المديرية العامة للآثار العقار على أنه موقع أثري، فستبدأ معاملات استملاكه، وهذا يقتضي أن تدفع وزارة المالية ثمن الأرض لصاحبها بحسب الأسعار المطروحة حالياً، أي ما بين 4000 و5000 $ أميركي للمتر الواحد. لكن مساحة العقار الكبيرة (يمتدّ العقار على مسافة 1100 متر) تدفع إلى الشكبقبول الحكومة الحالية بصرف مبالغ (أياً كانت قيمتها) للمحافظة على الآثار والتاريخ... فمنذ بدأت ورشة «الإعمار والتنمية الاقتصادية»، صنفت الآثار والتاريخ والثقافة كماليات غير ضرورية. وتعاملت كل الحكومات مع مشروع الإعمار في بيروت كما لو أنه مدينة من دون تاريخ، وأعطت للمستثمر صلاحيات وتسهيلات تتخطى المعقول.
لهذا، من المهم أن يبادر أصحاب العقار إلى المطالبة بالمحافظة على الآثار ضمن المشروع، ذاك أن البرج الذي سيُبنى لن يختلف عن غيره من أبراج بيروت، إلا في حال التفت أصحابه إلى أهمية ما اكتُشف فيه، يمكنه أن يتحوّل إلى برج ـــ متحف. برج يحوي في إحدى طبقات مرأبه على حمامات رومانية توازي في جمالها تلك الموجودة خلف شارع المصارف في وسط بيروت، التي لا تتوقف شركة «سوليدير» عن الترويج لها على أنها هوية بيروت القديمة! هذا بالإضافة إلى أن المحافظة تزيد ما بين 10 و15% من سعر العقار بحسب دراسات أعدّت للأبنية التي دمجت الآثار في داخلها في لندن، إذ يأتي تصنيفها على أنها «عقارات ذات طابع متحفي»! وهذا ما يدفع بالمستثمرين إلى الشراء في تلك العقارات، فالقيمة «المالية» للآثار ترتفع مع مرور الزمن... وهي تصبح أقدم وصعبة الوجود أكثر
فأكثر.
من جهة ثانية، لن تمثّل كلفة المحافظة على الآثار فارقاً عظيماً في مشروع الإعمار هذا، فالبرج المؤلف من 22 طبقة يرتفع في منطقة الأشرفية على مرمى حجر من وسط بيروت، أي إن أسعار الشقق ستكون خيالية، وترتفع أكثر بعد أن كان المبنى يحوي في مرأبه متحفاً. بالطبع سيأخذ المتحف بعضاً من المساحة المصنّفة للسيارات، ولكنه سيزيد أكثر من سعر العقار، فيبقى المالك رابحاً. ففي أحد مرائب بروكسل مثلاً، حافظت البلدية على مرحاض من العصور الوسطى!
نعم، حافظوا على مرحاض... ألا يمكننا أن نأمل أن تحافظ السلطات اللبنانية ومالك العقار على حمامات رومانية ضخمة؟
إن اكتشاف الآثار ليس لعنة تقع على مالك العقار (كما يعتقد البعض)، بل ميزة ينفرد بها عن غيره، وهو غنى يضيفه إلى أملاكه... ولكن حينما يرفض المستثمر أن يرى تلك الحسنات، فكيف الطريق إليه في دولة وإدارات ترى صاحب الأموال إلهاً حياً تُنفّذ له كلّ طلباته؟


جرف الآثار

بدأت عملية جرف حمامات الصيفي الرومانية في العقار الملاصق، حيث رفع أكثر من ستين متراً من الفسيفساء والأرضية الرخامية. وحينما أكمل علماء الآثار تنقيباتهم، عثروا على سلسلة من المصانع الحرفية، واحد منها لتصنيع الزجاج يتميز بفرن ذي قبة دائرية.
ويؤكد أسعد سيف أن معامل الزجاج ذات الأقبية «الدائرية، معروفة في أوروبا، لكن حتى اكتشاف هذا «الفرن الصيفي»، لم يكن معروفاً أن هذا الشكل متبع في الشرق الأوسط، فهذا اكتشاف فريد من نوعه». ويقول سيف إنه «سيُرفع الفرن (الذي لا يزيد قطره عن المتر الواحد والمبني بالطين النضج) والمحافظة عليه في مستودعات المديرية العامة للآثار، بانتظار البتّ بمشاريع
المحافظة».