جان عزيزمعبّرة ومتأخّرة، كانت صلاة البابا بنديكتوس السادس عشر، في موقع البرجين المنهارين خلال حوادث 11 أيلول في نيويورك.
معبّرة أولاً، لأن فيها، ولو عبر القياس والاستذكار، بعضاً من صلاة سلفه في مكان آخر. فهي إلى حد كبير، تذكّر بزيارة يوحنا بولس الثاني إلى ضريح الأب بوبيلوسكو في بولونيا، شهيد الحكم الأحمر، بعد سقوط الستار الحديدي للأخ الأكبر. معبّرة، لأن فيها بعضاً من رسالة الشبه بين الحبرين، كأنما فوتييلا عاد إلى وطنه بعد تحرّره، ليقول ها قد انتصرت. وكأنما راتزنجر ذهب إلى نيويورك بعد مأساتها وحروب تلك المأساة، ليقول: أما قلت لكم؟!
أصلاً، ومنذ كلام البابا الحالي عن معضلة الإسلام والقوّة، في جامعة ريغنسبورغ في أيلول 2006، بدت المماثلة واضحة بين الرجلين و«المسألتين»، كما عبّر عنها جوزف سماحة. يوحنا بولس الثاني الآتي من وارسو الواقعة تحت عباءة ستالين، كان بابا الحرب الباردة، حتى انتصر. وبنديكتوس الآتي من برلين المتيقّظة حيال أقليّاتها المسلمة وحيال البلقان وحيال أوروبا والمعضلة التركية، سيكون بابا «الحرب الباردة» الجديدة، حتى
ينتصر.
لكن زيارة خليفة بطرس إلى قعر ما كان قبل بن لادن «سقف العالم»، جاءت متأخّرة، بقدر ما هي معبّرة.
متأخّرة لأن زمناً سحيقاً يبدو كأنه مضى على تلك اللحظة الأميركية بامتياز. يوم عنونت الصحافة الفرنسية «كلّنا أميركيون».
ويوم خرج رودي جولياني عمدة المدينة المنكوبة، ليرفض هبة سعودية مقرونة بانتقاد لإسرائيل. ويوم أجاد جورج بوش في زلّات لسانه عن حروبه «الصليبية» المقبلة. ويوم صارت لواشنطن وزارة للشؤون الأمنية، تسأل حكام الرياض عن مناهج مدارسهم الرسمية وكتاتيبهم الدينية، على خلفيّة أن أمن المواطن الأميركي وثيق الصلة بما يعلّمه ملافنة الشيخ ابن باز في دولة العائلة الوحيدة المالكة لدولة في عالم الماكدونالدز
والمايكروسوفت.
تغيّر الزمن وتأخّر بنديكتوس. فإدارة واشنطن صارت مدركة لكون الرياض «حليفاً استراتيجياً» لها في المنطقة والعالم، على ما هي عليه، ومن دون أي تعديل أو تكييف. حتى إن جولياني نفسه، صار في أوقات فراغه الاسترئاسية، صاحب شركة أمنية رائجة في الخليج نفسه. وبندر بن سلطان، كما يصفه بوب ودوورد في رائعته «ستايت أوف دينايل»، صار «المعلّم» و«الأستاذ».
في أقل من سبعة أعوام، انقلبت واشنطن على انقلابها السابق. نسيت مثالية محافظيها الجدد ورومانسية أحفاد جفرسون وفلسفة برنارد لويس بشأن سوسيولوجيا الأديان، وعادت إلى هاجسها الوحيد: مؤشر داو جونز وإقفال «برنت» نيويورك. سبعة أعوام، انتقل خلالها مركز ثقل الوجدان الأميركي الحاكم، سبعة «بلوكات» ونيّف، وفق اللغة الطوبوغرافية لأبناء العم سام. انتقل المركز من «غراوند زيرو» إلى «وول ستريت»، أو عاد إليه.
وكيف لا يعود وسعر «البرنت» الشهير على حافّة 120 دولاراً.
أصلاً، ومنذ أعوام طويلة، لخّص أحد الدبلوماسيين الأميركيين الخبراء، خلفيات السياسة الخارجية لواشنطن بالتأكيد على أنها ثلاث، ومندرجة ضمن ترتيب هرمي أولوي كالآتي: أولاً أمن الأرض الأميركية. ثانياً رفاه المواطن الأميركي. ثالثاً قيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.
بعد 11 أيلول 2001، تمكّن صاحب «ما الذي جرى خطأ؟» من إقناع البيت الأبيض بأن تحقيق الخلفية الثالثة في الشرق الأوسط، كفيل بإنجاز الأوليين.
بعد سبعة أعوام على تلك المحاولة، صار «الأمن القومي» في مأمن نسبي، وصارت ديموقراطية الفلوجة وقندهار وهماً مكشوفاً، وصار «رفاه» الأميركي عاملاً وحيداً حاسماً، تحت عنوان قيمة أولى أو حتى وحيدة: «بترودولار».
أولى نتائج هذا التحوّل عندنا، أن الرهان الأميركي بات كالآتي: إذا قدّر للبنان أن يكون الثمن المطلوب لاستمالة السعودية إلى المعسكر الأميركي للسلام في المنطقة، فالمسألة سهلة، بسيطة ومحسومة.
بضعة مسيحيين، وبعض «الإرهابيين» الشيعة لا يزالون يعرقلون حلماً كبيراً بأن يصير مركز الثقل الإسلامي السنّي، متصالحاً مع إسرائيل. مجنون اسمه ميشال عون، وأصولي اسمه حسن نصر الله، يمنعان تحقيق «البينغو» الأميركي: ضمان مصلحة إسرائيل، وضمان مصادر النفط وعائداته معاً... كيف لهذين الاثنين أن يجرؤا؟!
تأخّرت زيارة البابا مبارك. مضت على توقيتها «المومنتوم»، سبعة أعوام عجاف. الآتي من الأيام قد يكون أكثر عجفاً. إلاّ إذا عاد بن لادن إلى نيويورك، أو عاد البعض بين بيروت والرياض، إلى رشده.