انطوان سعدمما يمكن استخلاصه من مقررات مؤتمر الدوحة، السلبية والإيجابية، أن الفريقين المتحاورين اللذين رفعا شعار تعزيز موقع رئاسة الجمهورية خلال الأشهر التي سبقت وتلت الفراغ الرئاسي، اتفقا على حساب هذه المؤسسة وما تمثّله من دور في التركيبة اللبنانية الدقيقة. فالمعارضة التي بررت تحرّكها بتحصين الرئاسة، والموالاة التي شددت على ضرورة إعطائها «الصوت الوازن»، لم يكونا، على ما يبدو من حصيلة اتفاقهما على تشكيلة 3، 11، 16، إلا في صدد اللعب على الرأي العام المسيحي من أجل كسبه إلى هذه الجهة أو تلك وتبرير تعطيل الانتخابات الرئاسية، وإبقاء الموقع شاغراً.
فحتى الرئيس السابق إميل لحود الذي كانت الموالاة تناصبه العداء الشديد والمعارضة «تُبازر» عليه في كل حوار وتخجل من علاقتها به وتحجم عن زيارته أو الأخذ برأيه، حظي في تركيبة الأربعة وعشرين في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بأربعة وزراء، من بينها نيابة رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع. هذا الاستنتاج يعكس حقيقتين مُرّتين: الأولى أنه في كل مرة تتصادم فيها القوى السنّية والشيعية في لبنان يضيع فيها الدور المسيحي أو يتعطّل، وفي كل مرة تتفق هذه القوى يُهمّش هذا الدور. والمثال الآخر على هذا الأمر التحالف الرباعي بين حزب الله وتيار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أفضت، في ما أفضت إليه، إلى التهميش المسيحي الأول في تاريخ لبنان الحديث، هذا إذا ألقينا مسؤولية هذا التهميش على القيادة السورية وحدها خلال السنوات الخمس عشرة التي تلت التوقيع على اتفاق الطائف.
الحقيقة المُرة الثانية هي أن القادة السياسيين المسيحيين مشغولون في نزاعات تعزيز النفوذ كل على حساب الآخر أكثر بكثير من انشغالهم في بلورة الدور المسيحي في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، وذلك على رغم أن ملامح الدور المطلوب واضحة، وهي تشكيل جسر عبور بين الطائفتين وابتداع وسيلة لخلق علاقة تكاملية بين جميع الطوائف اللبنانية بحيث لا تعود رجع صدى النزاعات الطائفية في منطقة الشرق الأوسط، بل عنصراً لامتصاص هذه الأزمات وعاملاً لتحقيق السلام والازدهار والرقي لجميع شعوب المنطقة.
إزاء هذا الواقع، ترى أوساط مارونية مراقبة وفاعلة في المجتمع المدني أن ثمة خطوات يمكن اتخاذها للتخفيف من مساوئ الواقع الذي خلّفه نزاع المعارضة والموالاة واتفاقهما على رئاسة الجمهورية، وبالتالي تحرير سيد بعبدا من دور الشاهد أو المتفرج في مجلس الوزراء حيث لا يرجّح الوزراء الثلاثة قراراً أو يوقفونه، في ظل التجاذبات القائمة. ومن هذه الخطوات:
ــــ إحجام رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عن تسمية ثلاثة وزراء في الحكومة العتيدة حتى لا تُسجل سابقة تقزيم دور الرئيس في مجلس الوزراء. فيعمد إما إلى توزيع الحصة الهزيلة المتروكة له، واحد للمعارضة وواحد للموالاة، ويضمن استقلال وزير الداخلية العتيد، أو يترك المقاعد الوزارية الثلاثة إلى ثلاث شخصيات مستقلة مرموقة غير محسوبة عليه، على أن يستعيض عن هذا الأمر باشتراطه تقديم الموالاة والمعارضة شخصيات منها تتمتع بصفات أساسية مثل النزاهة، ونظافة الكف، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة أو الفئوية. وبذلك يكون الرئيس منسجماً أكثر مع ما جاء في خطاب القسم من كلام عن التوازن ودور الحكم الذي يطلبه جميع الأفرقاء منه.
ـــــ إطلاق يد رئيس الجمهورية في أمر يعود إليه تقليدياً، وهو اختيار قائد الجيش ومدير المخابرات المقبلين. فإذا كان أداء الجيش وكبار الضباط في السنوات الثلاث الأخيرة هو ما زكّى قائده الذي هو أعلم الناس بكفاءات ومواهب ضباطه، فحري بالقادة السياسيين ألا يتدخلوا في هذا الشأن ويعيثوا فيه على طريقتهم التي كادت تطيح كل الدولة اللبنانية وأجهزتها.
ــــ إناطة مسؤولية تعيين المسؤولين في الهيئات الرقابية الرسمية، وبخاصة مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والمجلس التأديبي والإشراف على سير أعمالهم، برئيس الجمهورية بدلاً من رئاسة مجلس الوزراء. وقد يكون من الأفضل في المستقبل إجراء تعديلات في القوانين في هذا الاتجاه، باعتبار أن إلحاق هذه الهيئات في السابق برئيس الحكومة كان بهدف تحقيق بعض التوازن بينه وبين رئيس الجمهورية الممسك بناصية السلطة التنفيذية وحده. أما وقد نزع اتفاق الطائف هذه السلطة من رئيس البلاد الذي بات حكماً ومشرفاً على سير عمل المؤسسات ولكن دون صلاحيات فعلية، فيمكن من خلال ربط الهيئات الرقابية به إعطاء معنى واقعي لهذا الدور، ولا سيما أن التجربة دلّت في جمهورية الطائف على أن رئيس الجمهورية لا يمكن إلا أن يأتي نتيجة توافق بين القوى السياسية، بينما رئيس الحكومة تفرضه إرادة الأكثرية النيابية دون منازع أو شريك.