لاجىء عمره 10 سنوات يعمل ماسح أحذية ويشعر بالقهر عندما يرى أقرانه يخرجون من المدارسملايين من أبناء أحد أغنى بلدان العالم في ثرواته الطبيعية والبشرية تحوّلوا بفضل الاحتلال الأميركي لبلدهم إلى لاجئين على قيد الحياة، بفضل المساعدات القليلة التي يحصلون عليها من الأمم المتحدة وبلدان اللجوء. في لبنان أكثر من خمسين ألف لاجئ عراقي، بينهم آلاف الأطفال لا يمرّ يوم دون أن يشعروا بالإهانة
أمين ناصر *
خمسة ملايين طفل عراقي باتوا أيتاماً، و20 % من ضحايا العنف في العراق هم من الأطفال، بحسب إحصاء ات الحكومة العراقية والأمم المتحدة. الأرقام والنسب المذكورة، مُضافاً إليها وفاة ما معدّله طفل من بين كل ستة أطفال عراقيين دون الخامسة منذ عام 1990، ليست الخطر الوحيد الذي يواجه أطفال بلاد الرافدين. فقد اعتقلت قوات الاحتلال والحكومة العراقية ما لا يقل عن 1500 طفل، بينهم 700 في عام 2007، بتهم صنع القنابل وزرع العبوات. لا تتوقف المأساة عند هذا الحد. فبعض الجماعات المسلّحة يجنِّد أطفالاً، دون الخامسة عشرة، للقيام بعمليات قتالية وانتحارية. فعلى سبيل المثال، نفّذ طفل يتراوح عمره بين 12 و13 سنة هجوماً انتحارياً على قوات الاحتلال في الفلوجة. ونتيجة للعنف الدائرة رحاه في العراق، ارتأت عائلات عراقية البحث عن مأوى آخر، على الأقل لأيام، ــــ برأيهم ــــ لتُمنى هذه العائلات بعدها بفترة يأس ثم ببصيص أمل في قضية اللجوء السرمدية، وما تقدمه لهم مفوضية شؤون اللاجئين من دعم وسلام هم في أشد الحاجة إلى الحصول عليهما. ويبتدئ طريق الهجرة بحثاً عن سلام هرباً من الموت في العراق إلى دول الجوار.
تقول أم علي: غادرتُ العراق حفاظاً على ولديّ بعدما قُتل والدهما ولم يبق لي في الدنيا سواهما. آخر همّي أتعلّما أم لم يتعلّما، لديهما أوراق أو بلا أوراق، المهم بالنسبة إلي أن يبقيا على قيد الحياة.
تبدأ رحلة عذاب جديدة بعد ترك العراق، فالأردن لم يعد يمنح تأشيرات دخول نظراً إلى التوافد الكثيف إلى أراضيه، وسوريا لم تعد تستوعب العدد الهائل للنازحين يومياً، فضلاً عن ضنك العيش. فلا يبقى حلّ سوى لبنان. الطفلة س. م. البالغة من العمر 11 سنة قصدت لبنان مع عائلتها بعدما رفض الأردن دخولها، ولأنها لم تحتمل العيش في سوريا. لكن الدخول الشرعي إلى لبنان حال دونه عدم توافر مبلغ 2000 دولار أميركي الواجب إبرازه عند الحدود، مما دفع العائلة إلى الدخول «خلسة». ومن أهم أسباب ترك العائلة للعراق، كان حادثة اختطاف مدير مدرسة الطفلة ومجموعة طالبات كلهن من طائفة مختلفة عن طائفة سكان المنطقة التي تقع فيها المدرسة. وفي لبنان أرادت الفتاة إكمال دراستها، فاعترضها عدم حملها الأوراق القانونية اللازمة. عولج هذا الأمر، لكن بعد تأخيرها صفّين دراسيين. لاحقاً، قرر رب الأسرة العودة إلى بلاده لعدم قدرته على تحمّل «حياة الذل التي كان يعيشها في عمله كناطور مبنى، حيث تعرّض لأكثر من اعتداء لم يستطع فيه الدفاع عن نفسه لأنه لا يحمل أوراقاً شرعية». أما الفتاة، فستحرم من متابعة دراستها، لأن أمها تقول «إنها أصبحت كبيرة للعودة إلى الصف نفسه بعدما مرت سنتان»، فقررت إرسال ابنتها للدراسة في الحوزة الدينية.
تقول المعالجة النفسية التي تعمل في مؤسسة «عامل» إن الأطفال العراقيين الذين تقابلهم غالباً ما يبكون كثيراً في بداية العلاج. وبعد جلسات ثلاث تقريباً تتغير بعض الأشياء ويبدأون برواية تجاربهم الأليمة. كما أن الصدمات التي تعرّض لها بعض ضحايا العنف من الأمهات تنعكس سلباً على أولادهن، حيث نرى بعض هؤلاء الأولاد يعانون الاكتئاب والقلق. ومن الملاحظ أن اللون البارز في رسومات الأطفال العراقيين هو اللون الأسود، وتغلب على رسومهم مشاهد الحرب والعنف والموت والصراخ. ولا بد من الإشارة إلى أن العديد من الأطفال العراقيين لا يتلقون أي علاج نفسي بسبب نظرة مجتمعهم إلى هذا العلاج على أنه وصمة بالجنون.
والأطفال العراقيون في لبنان يضطرون في الكثير من الأحيان إلى العمل لمساعدة أهلهم على تكاليف الحياة، ولا سيما أن الوالد، وهو المعيل الرئيس للأسرة، إما لا يستطيع التنقّل خوفاً من الاعتقال أو هو معتقل بالفعل أو أنه مات في العراق. فالطفل م. س. البالغ من العمر 10 أعوام، الذي قتل أبوه في تفجير في بغداد، يعمل ماسح أحذية، حيث يرافقه شعور بالقهر عندما يرى أقرانه يخرجون من المدارس ويلعبون في الشوارع و«لديهم آباء». أما ي. ق. (15 سنة) فاضطر إلى ترك مدرسته للعمل في بيع السجائر مقابل 50 ألف ليرة في الأسبوع، وهو المعيل الوحيد لأسرته المؤلفة من 3 بنات وأمه وأبيه المريض، وعليه دفع 225 ألف ليرة إيجاراً لمنزل من غرفة واحدة لا يدخلها نور الشمس. يقول «أتحمل كل هذا على أنه مؤقت، لأن الأمم المتحدة وعدت العراقيين بالسفر».
بدورها، تعمل الطفلة ر. ش. (16 عاماً) في مصنع للأكسسورات النسائية، 15 ساعة يومياً، ولا تعود إلى منزلها الذي يبعد عن العمل لساعات سوى لتنام، لتستيقظ في اليوم التالي وتعيش الدوامة عينها. ومن الحقوق الأساسية التي حرم منها الطفل العراقي في لبنان الأوراق الثبوتية. فمن العائلات من لم تستطع تسجيل ولادات أطفالها بسبب عدم امتلاكها أوراقاً قانونية تشرّع وجودها على الأراضي اللبنانية. يقول اللاجئ العراقي ع. م.: «لدي طفلة وحيدة عمرها أربع سنوات ونصف ولدت في لبنان، لم أجرؤ على تسجيلها، وصرت أشعر بأن وجودها غلطة. فأحد أصدقائي رزق بطفلة وأراد أن يسجّلها، فطُُلِبَ منه تصديق شهادة الميلاد من السفارة العراقية، ومن وزارتي الخارجية والداخلية اللبنانية. وخلال المراجعات، قُبِض عليه.
أما مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت فرأت أن الوضع الذي يعيشه الطفل العراقي أسوأ بكثير مما يتصور البعض، كما أكد مديرها ستيفان جاكمي الذي قال إن الأطفال العراقيين في لبنان يدفعون ثمناً كبيراً ليس لهم ذنب فيه، ولا سيما أن لدينا مشكله كبيرة في الوصول إليهم. وإن كانت المفوضية قد ساعدت 1800 منهم في التعليم، فهنالك أكثر من هذا العدد بكثير خارج المدارس. والمشكلة الأساسية هي أن أهل هؤلاء الأطفال لديهم مشاكل قانونية بسبب الإقامة غير الشرعية، مما يجبرهم على التخفّي وعدم التواصل مع المفوضية والمؤسسات الشريكة للمساعدة. وبالطبع فإن الوضع غير القانوني للأهل ينعكس سلباً على الأطفال الذين بدورهم يضحون بلا أوراق ثبوتية، يقول جاكمي.
أما بالنسبة إلى التعليم، فيؤكد جاكمي أن الطفل اللاجئ له الحق بدخول المدارس الرسمية اللبنانية بفضل قرار اتخذته الدولة اللبنانية في عام 1999، غير أن الإشكالية الكبرى تبقى في أن الأماكن في المدارس الرسمية محدودة، وغالبيتها لا تتسع للأطفال اللبنانيين.
ويضيف جاكمي أن العديد من العائلات العراقية تعتقد أن بقاءها في لبنان مؤقت وأنها في فترة «ترانزيت» على أمل الذهاب إلى بلد آخر، مما يؤدي بها إلى حالة من عدم الاستقرار والضياع تنعكس على الأهل والأطفالأما عن حلم «إعادة التوطين» بحثاً عن الأمان المفقود، فالعائلات التي لديها أطفال قد تكون لديها الأولوية بالنسبة إلى المفوضية كما يؤكد جاكمي، لكن هذا الأمر يعود في نهاية الأمر إلى دول إعادة التوطين التي غالباً ما تبحث عن حالات اضطهاد خاصة أكثر منها عن حالات هروب من العنف والموت المعمم. ولا بد من الإشارة إلى أن الاندماج المحلّي في لبنان ليس خياراً مطروحاً للاجئين، مما يعرّض الأطفال العراقيين مجدداًَ لتجربة الهجرة والرحيل عن الأحياء التي أجبروا أنفسهم على اعتيادها، والأصدقاء الجدد والمدارس والحياة الجديدة، في الغالب بعد سنوات طويلة، وإما عودة إلى مجهول أكبر في العراق أو رحيل إلى حلم بالأمان والاستقرار في مكان ما غريب بطبيعته عن عراقهم و«لبنانهم».
* صحافي عراقي