عصفت رياح المذاهب بحلبا، وحصلت مجزرة قبل عام. أحد عشر رجلاً صاروا جثثاً، ورُموا في بئر القتال الداخلي. لا جديد في التحقيقات العسكرية، وليس من موقوف واحد حتى الآن. القتلة ما زالوا أحراراً والقتلى لن يعودوا
أحمد محسن
مر عام كامل على المجزرة. في الشكل، لا شيء يوحي في حلبا أن أحد عشر رجلاً ذُبحوا هناك قبل عام، بالسيف والرصاص، وسط الهتافات الحزبية وتكبيرات «الله أكبر». لكن في الواقع، وإذا استثنينا الجبال العملاقة التي تحضن شوارع القضاء، وتلقي عيناً خضراء على أرصفتها، فالحرمان لم يترك للناس هناك ما يحتفظون فيه داخل ذاكرتهم، سوى القتل الجماعي، الذي اقتنص من حلبا أبناءً قبل عام. إحدى المنتسبات إلى الحزب القومي، التي كانت في البلدة حين وقعت المجزرة، تدلي بجزء مما شاهدته: «كانوا منتشرين على السطوح بأسلحتهم الواضحة وكنا خائفين». ينبري من بين القوميين خالد، أحد الشهود العيان الناجين من المجزرة، ويعيد رواية القصة، كأنها حصلت منذ يومين. يتّشح وجهه بالخوف، وتهدأ وتيرة صوته خشوعاً لذكرى رفاقه.

شهادة بعد عام: كأن الصوّر أمامي

بدأ كل شيء في السابع من أيّار، قبل واقعة الدم بيومين، حين عبرت رياح الشحن المذهبي شمالاً. والرياح الإعلامية كوسيلة لنقل التمذهب لم تكن وحدها سبباً، على ذمة القوميين. أكد مسؤول الحزب هناك وجود اتصالات حثيثة قبل يوم المجزرة، لتجنيب عكار أحداث أيار. وفي العاشر من أيار، ألقى مفتي عكار أسامة الرفاعي خطاباً في حضور عدد من المشايخ، والمحتجين على «غزو بيروت»، نبّه فيه «من الفرس والنظام السوري وحلفائه». وكما يقول خالد، الذي كان بين المعتصمين متكتّماً على انتمائه الحزبي، فإن المعتصمين لم يكتفوا بالاستفزازات، لا بل توجّهوا إلى مقر الحزب. هناك، تعرّضوا لإطلاق نار، يؤكد خالد انطلاقه من مبنى «تيار المستقبل» المواجه، مشيراً بيده إلى مقر الحزب القومي، الذي يقع في منحدر، مما يصعّب إطلاق النار منه، قبل أن يشير إلى مبنى راقب منه «إبادة القوميين». ويتابع: «طمأننا الجيش يومئذ إلى أن الأمور لن تتعدى الصراخ». فجأةً انطلق الرصاص والقذائف الصاروخية. ويؤكد أحد المسؤولين القوميين الميدانيين أن الحزب اتصل بالضابط المسؤول الذي طمأنهم قبل ساعات، فكان خطّه مقفلاً. أكثر من سبعين مسلحاً هاجموا نزلاء المركز الذين لم يتجاوز عددهم العشرين. ماتوا جميعاً باستثناء خمسة. في ساحة المركز، بقيت جثث الشهداء تتعرض للتنكيل، وتُرمى في بيك آب ضخم، وتجر على الأرض، ولم يتوقف الأمر إلا عندما أنهى المهاجمون عملهم بالتكبير، وحضر بعض عناصر قوى الأمن الداخلي، لينقلوا ثلاثة جرحى تظاهروا بالموت، ونكّل بجثثهم. وفي شهادة خالد، 11 شاباً قُتلوا، وأُحرقت المباني القريبة، كما صوّرت كاميرات المصارف وهواتف الفاعلين الحدث، ويردف «كان الجيش حاضراً وشاهداً هو الآخر». شاهد آخر، محمد عبد الرحمن، وهو مؤذّن في المسجد، كان حاضراً. يضع نظارة سوداء الآن لتحميه من الضوء، وربما من صور المجزرة المؤلمة. فقأوا عينه بعدما ظنوا أنه مات، ولحقوا به إلى المستشفى، حيث أُسيئت معاملته هناك أيضاً، ليصبح شاهداً هو الآخر على جريج خُبّئ في مصعد قبل أن يُنقل إلى سوريا ليعالج هناك. أمام كل هذه المعطيات كان لا بد من تحقيق يأتي بالعدالة، فالأمور بدت واضحة للجميع، والتلفاز لم يكن متفرجاً، بل نقل الوقائع.

«نرى قتلة أبنائنا في الطرقات»

وإذا صدقت أقوال الشاهد القومي، وصور الكاميرات، وكان الجيش حاضراً، فمن المنطقي ألا تستغرق التحقيقات كثيراً، لكن هذا ما لم يحدث. أجرت الشرطة العسكرية تحقيقاتها، وتحركت النيابة العسكرية، وخضع الناجون (أفراد الحزب القومي) للتحقيقات هم أيضاً، إلا أن أي مشتبه فيه لم يقف خلف القضبان حتى الآن. أكثر من ذلك، فإن مناصري الحزب القومي في بلدة حلبا أكدوا أنهم شاهدوا بعض المشتبه فيهم بارتكاب المجزرة يسيرون أحراراً في شوارع حلبا. وفي سياق موازٍ، علمت «الأخبار» من مسؤول أمني مطّلع على الملف أن التحقيقات انتهت منذ أربعة أشهر، وأن ملف التحقيق أغلق بالكامل. وفي هذا الإطار، استغرب والد أحد الشهداء الذين سقطو في المجزرة، «كيف أن أجهزة الأمن والقضاء استطاعت اختراق أجهزة أمن العدو، واكتشاف العملاء وسوقهم إلى التحقيق، بينما لا تستطيع إصدار قرار واحد بالقتلة الذين ظهرت وجوههم على شاشات التلفزة». واستفاض الوالد المفجوع، ليطلق موقفاً أقرب منه إلى السياسة، معلناً أنه «رغم إيمانه بالدولة والمؤسسات، فقد تراجعت ثقته بالقضاء المحلي أخيراً بعد خروج الضباط الأربعة». وفي سياق متصل، يقول خالد دياب، والد الشهيد محمد دياب، إنه يناشد رئيس الجمهورية، الذي «يثق به ملء الثقة أن يسهم في تسريع معاقبة الفاعلين». وإذا كانت حال التحقيقات في شؤون من قُتلوا بهذا الشكل، فإن أصحاب المؤسسات العديدة التي تعرضت للحرق أثناء المجزرة لم يتوقّعوا تعويضات جادة. «أتى أفراد من مخفر حلبا وأجروا مسحاً بالأضرار، فقدّروها بنحو 150 ألف دولار. لكن الدولة تتعامل الآن كأن شيئاً لم يكن»، يقول صاحب محطة محروقات متضررة قريبة من دار الفتوى، التي لا تبعد بدورها سوى مئات الأمتار، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة من مكان المجزرة، المكان (مركز الحزب) الذي أصبح ثكنة عسكرية تحرسه ملالة للجيش، وينام داخله العسكر. الأمر الذي استغربه مسؤول الشمال في الحزب القومي، مذكراً أن الحزب طالب باستعادة مركزه، جوبه «بلا مبالاة الشرطة العسكرية والقضاء أكثر من مرة»، مما اضطره إلى استئجار مركزٍ جديد في المنطقة.
يتعامل أقارب الضحايا مع المركز برمزية بالغة. يمكن الداخل إليه، على ضيق غرفه، وصعوبة التنفس فيها، أن يشم رائحة الموت في المكان. لم تترك الحرائق إلا اللون الأسود على الجدران، وبعضاً من قصص أحد عشر رجلاً قضوا في تلك الغرف آخر أيامهم قبل عام، ومات معظمهم أعزل مرفوع اليدين.


ضاهر: الموضوع طوي مع اتفاق الدوحة

كان الموت سبباً رئيسياً في الحديث الإعلامي عن حلبا، في أغلب الظن، لأن أهل المنطقة على اختلافاتهم السياسية، يُجمعون على تفاقم الإهمال بحق مناطقهم. لكن من الناحية الأمنية، لم تكن المجزرة هي الحادث الوحيد، مع القوميين خصوصاً. فقد لفت أحد عناصر الحزب إلى أن الاستفزازات التي يتعرضون لها متواصلة، وقبل عام ونصف عام من 10 أيار، كان المركز نفسه قد تعرض لمحاولة وصفها الشاب بـ«الاقتحام»، وقد «صدّها القوميون بعدما أطلقوا النار على أرجُل المقتحمين تجنباً لقتلهم»، مشيراً إلى أن الحزب دفع ثمن هذه الحادثة وسلّم مطلق النار إلى القوى الأمنية، فسجن 6 أشهر، قبل أن يُستشهد في المجزرة لاحقاً. أما عن الوضع الميداني الحالي، فيشير منفذ عكار في الحزب القومي السوري، محمود حسن، إلى أن الحزب القومي في حالة استنفار دائم، لكنه ينسق مع الجيش اللبناني بشأن المهرجان المفترض يوم الأحد المقبل. وفيما يشعر بعض القوميين ببعض الضيق بسبب بقاء بعض من يتهمونهم بارتكاب المجزرة أحراراً، فإنهم يؤكدون أن الوضع ليس مطمئناً، ويتوقعون تجيشاً مذهبياً مع اقتراب موعد الانتخابات، معتبرين سحب منفذ قضائهم لترشيحه قبل أسبوع بادرة لتجنيب المنطقة أي خضة أمنية محتملة. بدوره، رأى النائب السابق خالد ضاهر (الصورة)، الذي يتهمه القوميون بالمشاركة في الحدث، أن الحديث عن موضوع حلبا ليس وارداً بعد اتفاق الدوحة، «فالصلحة تمت على المستوى السياسي». أما من ناحية التصالح بين الأهالي، فأشار ضاهر، في اتصال مع «الأخبار»، إلى أنه يرحب بأي صلح بين أهالي عكار، وأن ذلك يجب أن يجري قريباً.
بيد أن رغبة الضاهر، لم تُلغِ بقية الاحتمالات. إذ حذّر رئيس الدائرة القانونية في الحزب القومي، إيلي غصان، «من ردّّ فعل قد يقوم بها قوميون خارجون عن سلطة الحزب، فيثأرون من مرتكبي مجزرة حلبا». ورغم أمله بالقضاء، رأى غصّان أن الوضع «قد يخرج عن السيطرة، ويثأر بعض القوميين فجأةً».