منذ غابر العصور والعالم منشغل بالصحة مقدماً الصلوات والنذور والأضاحي لشفاء المرضى، الى أن أتى بعد مئات السنين مُعلّماً من جزيرة «كوس» اليونانية مقدماً مبادئ جديدة ومختلفة. شرح أبقراط عن علاقة الصحة العامة بالبيئة والنظافة الشخصية والتغذية السلمية ضمن منهاج تعليمي قد يكون الأول حينها، كلية أبقراط للطب. بقي مسار الصحة أسير التجارب والاختبارات ومتطلبات العمل والإنتاج، إلى أن جاءت سنة 1948 وأُطلق معها تعريف منظمة الصحة العالمية عن الصحة كحالة من الرفاهية الجسدية والعقلية والاجتماعية الكاملة، وليس فقط غياب العلة والمرض.
مع تتعدد النظم السياسية والاقتصادية وتتداخلها مع العوامل الاجتماعية وتعقيدات أسواق العمل والصناعات الطبية والدوائية والتأمين الصحي، برزت مشاكل صحية بطرق مختلفة، وتشعّبت أنماط الاعتلال والاستشفاء، وبالتالي طرق الاستغلال. بدأت الفجوات الصحية بالظهور بين البلدان المتطورة والنامية وحتى ضمن البلد الواحد. تدنت بعض معدلات صحة الفرد والمجتمع وباتت الفوارق في الوفيات والمراضة والاعتلالات فاضحة وفاقعة.
أصبحت مخاطر وفاة مولود أعلى بـ3 إلى 4 أضعاف من وفاة آخر وُلد على مسافة بضعة كيلومترات.
دفعت النساء والأطفال والصحة العامة والبيئة أثماناً صحية عالية نتيجة إهمال السياسة والاقتصاد للصحة، واستسهلت الحكومات صحة الأفراد برصدها ميزانيات ضئيلة وبتوظيف الصحة في خدمة السياسة (على شاكلة جمعيات ومراكز واستشفاءات وتوزيع أدوية). أمام هذا الواقع، بقي تعريف الصحة صامداً رغم الانتقادات بعدم قدرته على الإحاطة بمحددات الصحة المتعددة والمستجدة، وكان لا بد من مواجهة تلك الانتقادات. جاء الرد من كازاخستان حيث تم إطلاق إعلان «الصحة للجميع» في العاصمة ألما آتا عام 1978 أعاد الإعلان تذكير العالم بأن الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان، والوصول إليه هدف اجتماعي هام يتطلب مساهمة وجهود القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الى جانب الصحية.
«الصحة للجميع» لا تتحقق دون رعاية أولية متاحة للجميع، ودون استيعاب المحددات المتزايدة للصحة والمرتبطة بسلوكيات الحياة، وتعزيز الصحة، والصحة النفسية، الأمان الاجتماعي والبيئي، ومواقف الأفراد ومشاركتهم في الرعاية الصحية. إن محاولة «تصليح» ما «تُخرّبه» معيشة الفرد في صحته، هي محاولة مكلفة وعبثية ومنهكة على المدى الطويل وعاجزة عن رفع مستوى صحة السكان بشكل ملموس.
في آذار من عام 2005، شكلت منظمة الصحة العالمية لجنة المحددات الاجتماعية للصحة للنظر في العوامل السكنية والمعيشية والولادية والسياسية والمادية والتشغيلية وغيرها، والتي تساهم في صوغ صحة الناس وسلامتهم. نصف الوفيات سببها سلوك الفرد الذي يحدده المعاش والعمل والتعليم. في الولايات المتحدة الأميركية تتساوى الوفيات الناتجة من تدني الدعم الاجتماعي وتدني التعليم والفصل العنصري، مع الوفيات الناتجة من أمراض القلب والشرايين والرئة.
في دراسة للطبيب الإسكتلندي توماس ماكيوين عن معدلات الصحة والأعمار، تبين أن تدني الوفيات وتحسن معدل الإعمار كان نتيجة تحسن الظروف المعيشية كالتغذية والتعقيم ونظافة المياه بالدرجة الأولى، مع دور ثانوي للعناية الطبية.
تشتغل دراسات أخرى على تأثير المحددات الاجتماعية كالفقر والسترس والإرهاق المزمن ليس فقط على اعتلال البالغين، بل على الأجنة والأطفال وأدائهم العقلي والجسدي في المستقبل. كما ويبرز أيضاً تأثير العوامل الاجتماعية الاقتصادية والظروف المعيشية على التغييرات الجينية عند البالغ والطفل مما يزيد من تعرضه لأمراض مزمنة ووفاة مبكرة.
تعكس هذه الدراسات وتتماشى مع صرخات الناس في لبنان من واقع السترس المزمن والتلوث البيئي من مجرى الليطاني الى معامل شكا ومكبات النفايات. لا يخفف من وطأة الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي على معدلات الصحة زحمة أجهزة وأدوات طبية متقدمة أو تقنيات تظهر عشوائياً دون ان يظهر أي تحسن لصحة المجتمع. تصرف الولايات المتحدة الأميركية على الصحة ما لا تصرفه دولة قط في العالم، لكن موقعها بالمؤشرات الصحية يأتي في أسفل الدول المتقدمة.
قد لا يحتاج الناس الى مستشفيات أكثر وأدوية أكثر (في أغلب الأحيان)، هم يحتاجون أكثر لظروف معيشية أفضل، وشبكات أمان اجتماعي أقوى، وأجور أعلى، وعدالة اجتماعية جدية، وسياسات صحية متكاملة.
تغيرت الظروف المحيطة بالصحة من الصلوات والبخور الى الطب الشخصي وطب الجينات، وتغيرت معها الصحة من حق إنساني الى «سلعنة» واستهلاك. المنطلق الأساسي العودة بالصحة الى كونها حقاً وكونها تتعلق بمقدار احترام الدول والحكومات للمواطن والمجتمع الذين يزدادون خارج التغطية.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحة جنسية