فتحت شبكة الإنترنت مساحة كبيرة للباحثين عن فسحة للتعبير عن أنفسهم، وتمثّل المدوّنات الشخصية وسيلة إعلامية يملكها كل فرد، ويقدم من خلالها آراءه وأفكاره ومعلوماته، ويروي خياراته السياسية أو الفنية أو العائلية وما إلى ذلك... في المدوّنة يرسم كل شخص صورته ووجوده الافتراضي
غسان رزق
لم أكن قد قرّرت فجأة أن أنافس أسامة بن المنقذ: الاسم الوحيد في التراث العربي الذي يقترن بكتابة المذكرات. وليس الأمر أن انتابتني رغبة عارمة في تقليد المفكر الفرنسي جان جاك روسو، أشهر الأسماء ارتباطاً بفن تدوين اليوميات؛ كما لم أسع لتقليد تلك الممثلة الممتلئة بالحيوية التي تؤدي دور صاحبة المذكرات الشهيرة في فيلم «يوميات بريدجيت». كلا. لم تكن هذه الدوافع الرفيعة وراء تحوّلي إلى مدوّن إلكتروني «بلوغر» قبل فترة غير بعيدة نسبياً. ما حدث فعلياً أنني قرأت كثيراً عن المدوّنات الإلكترونية. وعلمت أنها تنتشر بين الشباب المعاصر كالنار في الهشيم، بحسب تشبيه رائج وسيئ! كما قرأت أن بعض أصحابها، ويُسمون «بلوغرز»، يستثيرون النّظُم السياسية والثقافية السائدة، فيدخلون السجن، كما حدث في مصر، وقبلها في البحرين وإيران. وعرفت أيضاً أن المدوّنين الإلكترونيين يتعرّضون للرقابة الأمنية كما حدث لبعضهم في تونس. وتناهى إلى سمعي أيضاً أن «البلوغرز» صاروا موضعاً لاتفاقات استراتيجية بين الحكومات وشركات الكومبيوتر العملاقة كالحال في الاتفاق الذائع الصيت الذي أبرمته الصين مع «غوغل»؛ ويقضي بأن لا تفتح الصفحات الإلكترونية مساحاتها للتدوين إلا لمن ترضى عنه السلطة، فلا ترى في حضور كلماته الإلكترونية على الإنترنت خطراً. وجذبتني تلك الأخبار وما يشبهها؛ والتي رسمت عن ظاهرة «البلوغرز» إغراءً تصعب مقاومته. وزاد في طين الإغراء بلّة أن صنع مدوّنة إلكترونية على الإنترنت أمر سهل تماماً. وقد علمت أن محرك البحث «غوغل» يحتضن الكثير من المدوّنين. فدخلت ذلك الموقع. ووجدت كلمة «بلوغرز» في قائمة الخدمات. ونقرت فانفتحت صفحة ملؤها الرسوم والألوان، تقول إن صنع مدوّنة على الإنترنت لا يستغرق إلا 3 خطوات. زادتني السهولة حماسة، ولم أكن قد نسيت أنني حاولت مراراً أن أصنع لي موقعاً فردياً في «جيوسيتز» Geocities، وهي تجربة في المجتمع الافتراضي لم يكتب لها النجاح. واستطراداً، فإنني لم أنس الساعات الطوال التي قضيتها مراقباً لنزول بعض الأدوات التي تمكّن من صنع موقع في «جيوسيتز»، والتتبع الدقيق لسلسلة طويلة من الأوامر والتوجيهات، التي نجحت في إحباطي ولم تفلح في صنع موقع إلكتروني لي! ومع قسم المُدوّنات في «غوغل»، بدت الأمور مختلفة. ولا تقتضي معرفة واسعة بتقنيات الكومبيوتر ولا تضلعاً في شؤون المعلوماتية. واخترت لي اسماً، وكلمة مرور؛ كما أعطيت الموقع عنوان بريدي الإلكتروني. وأعطيت خيار أن أضع صورة لي، مع استعمال برنامج «بيكسا» Pixa، فأحجمت لأنني أردت سلوك أسهل السُبل. وملأت استمارة بمعلومات أساسية عني، مثل تاريخ الميلاد والجنس والهوايات والبلد وعنوان السكن وغيرها؛ إضافة إلى العنوان الذي أختاره للمُدوّنة. وأخيراً، انفتحت أمامي صفحة لها 3 أقسام أساسية، وتعلوها قائمة مبسّطة مؤلفة من مجموعة من المستطيلات الصغيرة التي تحتوي كل منها أمراً مفرداً بكلمة وحيدة. ووضعت في القسم الأول عنوان الموضوع الذي أكتبه. ونقلت إلى القسم الواسع الثاني، بأسلوب «النسخ واللصق»، أحد النصوص التي كنت أختزنها على كومبيوتري. وأخيراً، عدّلت أرقام في القسم الثالث، بحيث باتت تشير إلى تاريخ الكتابة، باليوم والشهر والسنة وحتى الساعة والدقيقة أيضاً. ووافقت على أنني أرى النص بوضوح. ونقرت على كلمة في القائمة تعني نقل ما كتبت إلى الإنترنت. وبعد ثوان، صارت لي كلمتي على الشبكة الإلكترونية الدولية، التي يتمكن أيٌّ كان من الاطلاع عليها، وخصوصاً أنني لم أشترط إدخال كلمة مرور لقراءة النص ولا للتعليق عليه. وكررت الأمر، بحيث وضعت قرابة عشرة نصوص؛ فظهرت على التوالي، في المُدوّنة، التي صارت تُظهر من كل نص بضعة أسطر، قبل أن ترسم خطاً بينه وبين ما يليه. وهكذا، حصلت على مفكرة إلكترونية، أكتب فيها ما يروق لي بالتسلسل الزمني الذي أختاره.
باختصار، صرت «بلوغر»! طرت فرحاً. أرسلت «اس ام اس» إلى كل من أعرف، زافاً لهم «البشارة» مع عنوان المُدوّنة.
فقد علمت أن شباب «البلوغرز» يستعملون المُدوّنات ساحة للعب الإلكتروني، فتظهر ليونة عقولهم المتينة، وتبرز تقاطيع عضلات تمرسهم بالتقنيات الرقمية. وقد أجبر هؤلاء مواقع الأخبار على تبني تقنية «التوكيل السهل فعلياً» («ار اس اس»RSS) لكي تصل بين المواقع والمُدوّنات. كما أرغموا كبريات الصحف على وضع صلة لنقل مقالاتها مباشرة إلى صفحات «البلوغرز»، حتى إن بعض تلك الصحف صنعت لنفسها مدوّنات تديرها هيئات تحرير متخصصة! وزاد في إحساسي بأن هذه الظاهرة تتجاوزني، أن شباب «البلوغرز» رسخوا أقدامهم في تناقل أشرطة الخلوي والملفات الموسيقية والأفلام القصيرة بين صفحات مدوّناتهم، التي صارت ساحة إلكترونية متشابكة تتطاير بين ثناياها أنواع الملفات الرقمية؛ بحيث صارت وسيطاً إعلامياً شديد القوة والتأثير. ولا ينافس تلك الصفحات الفوّارة سوى ظاهرة تبادل الأشرطة في موقع «يوتيوب»، الذي يحمل الكثير من ملامح «البلوغرز». صحيح أنني صرت «بلوغر»، لكن كأنما سقطت سهواً من قطار سريع!