أنسي الحاج
أُمثولة يتيمة
يسألني كيف أكتب في جريدة مؤيّدة لسوريا وإيران. كنت أعمل في جريدة مؤيّدة لأميركا والسعوديّة والكويت ولم يسألني أحد. ولا سأل أحد كيف يتفرّج النقّادون من 14 و8 ومن «الوسط المعتدل»، على عمليّات إكراه الحقيقة وتزوير التاريخ وتعميم التعمية، ولا تنتفض أفئدتهم إلاّ في نصف اتجاه.
أفسد المال السياسي، في ما افسد، وجدان الأوادم، عبر انخداعهم بغاسلي الأدمغة. سليم الحص، بين السياسيّين، أبلغ مَن تحدّث عنه. ولا يزال في تهذيبه العجائبي دون الحقيقة. لم يعد من سبيل للاغتسال من قذارة هذا المال غير الإفلاس، حيث ينعدم الاختيار تماماً وتغدو النزاهة قَدَراً لا مفرّ منه.
تَرَك سمير قصير أُمثولة في النقد الذاتي عزّ نظيرها في تاريخ الصحافة العربيّة السياسيّة حين وجّه عقله وصدقه وشجاعته نحو الذات، نحو الداخل، داخل الحركة الشعبيّة الضخمة التي كان هو أحد أنبيائها، ولم يسمعه أحد، لأن القافلة راحت تسير على ما قُدّر لها لا كما تمنّى الحالمون أمثال سمير قصير. فهل يظلّ مستحيلاً على بذور أُمثولة كهذه، عُمّدت بالوعي قبل أن تُكلّل بالدم، أن تثمر في أحد؟
لا نطالب معسكر 8 آذار بالمثل. هنا، المناخ محبِط في أفق المحاسبة الذاتيّة أكثر ممّا يُحتمل. وأخطر ما فيه أن هذا الاختناق مسيَّج بالشهادة ومحصَّن بالقداسة. وقبل البحث عمّن يجرؤ يجب البحث عمّن يرى، يرى فقط، دون حُمّى. باستثناء الساكتين لا يبدو أحد.
احتدام الصراع يُفاقم التشنّج، والاستقرار في خنادق الانحياز، هنا وهناك، بات يضفي نوعاً من «الشرعيّة» والديمومة على انقسام لا يميّزه عن التقسيم غير نقص اللمسات الأخيرة. تبحث عن عقول عادلة فتقفز على سمعك وبصرك أفواج صارخة متوعّدة، فيخيفكا الهدير حتّى يصبح مناك أن يهدأ الصراخ لا أن تستقرّ الاوضاع أنه صراخ الواثقين من أن مَن يتقاذفونه هو القتيل، فلا بأس بالرقص فوق الجثّة ما دامت هامدة.
ليس هناك مَن يريد أقلّ من انهيار «النصف الآخر». و«النصف الآخر» مستسلمٌ إلى يأسه من «النصف الآخر» الآخر. ولا جديد في القول أن لا أحد، في المعسكرين، يريد الانفراج. وطبعاً لا أحد من المُلعّبين الخارجيين للسيرك الداخلي. فقد أصبح الأمر، بفعل «الساحرين» الأميركي والسوري خصوصاً، لعباً من أجل اللعب.
حين تَتوحّل، يَغْرق كلّ شيء في الوحل. حتّى رجال الإسعاف. حتّى الأصوات النظيفة. المستنقع يوظّف الجميع لأغراضه، مَن شاءه ومَن يحاول رفضه. هكذا منذ 1975. لا يَسْلَم إلّا الضحايا.


حتّى النصر
ماذا لو أُفسح للمتكارهين في التطاحُن على سجيّتهم، دون سدّ عسكري هنا وضَبْط أعصاب هناك؟ وهل هذا الضبط هو ما سيمكّن المجتمع من الحياة الطبيعيّة؟ وأيّ مجتمع هو هذا الذي يحلّ فيه الخوف محلّ الهواء؟
لا ندعو إلى انفجار الاحتقان، ندعو إلى إيجاد وسيلة للخروج من وضع «التهاجُم» الواقف عند الحافة. لو أمكن إفراغ البلاد من معارضي العنف وتركها لهواة التذابح لكان ذلك يكون الأنسب. على أمل اعتماد الحلّ ذاته كلّ عقد أو عقدين حين يكون جيل جديد من الأغبياء قد صمّم بدوره على ممارسة بطولاته.
لو لم نكن أغبياء، فضلاً عن كون بعضنا عملاء، لما وَجَدَ فينا السوريّون والإيرانيّون والأميركيّون والإسرائيليّون أرضهم الخصبة. القول نفسه عن الشعب الفلسطيني الممزَّق بأيدي أغبيائه وعملائه. وعن العراقيين. وعن السودانيين. وغداً حتماً عن الباقين.
نقترح على عازفي التأسّف ومُنْشدي المواعظ في مناسبات الدم أن يقلبوا الأسطوانة: عوض الدعوة إلى نبذ العنف والتعالي(!) على الجراح والابتهال إلى الذي عَزّ وجلّ (لماذا عزّ وجلّ وليس رأى وسمع، مثلاً؟)، عوض الرثاء والبكاء، فليشجّعوا سانّي أسنانهم على نهش بعضهم بعضاً حتّى النصر، لعلّ زعماءهم، في الختام، يهربون كلٌّ إلى بيت أبيه، هذا في دمشق وذاك في طهران، هذا في واشنطن وذاك في تل أبيب، فضلاً عن ذوي الميول السعوديّة.
وبما أنه ثبت أن لا أحد يريد حلّاً لما يُسمّونه «أزمة» وهو في الواقع تصفية بلد وشعب، فليركّز العقلاء على اختيار مساحات محدّدة يتبارى فيها المتقاتلون ويُمْنَعون من تجاوزها تحت طائلة القنص.
اقتراح سخيف. مُربَّع كتابيّ سخيف. مواطن سخيف ما زال يقرأ ويكتب.


الأصل هو الشبه
إن «ما يشبه» هو هو الأصل، وليس الأصل هو الأصل. عيوننا تفتّش دون هوادة، دون أن ندري، عن الشَبَه لا عن الأصل. عن الصورة، عن صورة الصورة، عن صُوَر الصورة.
لماذا الصورة، الجامدة أو المتحرّكة؟ لأنّها نبعٌ للهلوسة. الباحث عن الحقيقة، طالب النواة النيّئة من الأشياء، يضيق ذرعاً بالصورة، فهي تأخذ، تُلهي. في سياق اللهو هذا، من أجله لمَن يحاول الهرب، للجبان المسكين المُفْتَرَس، للمذعور، للمكبوت المتكبّر، الصورة باب مسحور، ينزلق منه إلى طبقات لا نهائيّة من الاكتشاف، إلى الاستغراق في مزمزة التفاصيل، إلى الانفصال عن كل الزيجات المفروضة، إلى الانفصال عن أصل الصورة ذاته، عن أصله العادي، الشرعي، إلى «ملصقات» رائعة ممنوعة، إلى صُوَر متولّدة من الصورة تؤجّج الانحراف المُخلّص.
ولا فرق، لا فرق بين الأصل والصورة، ولا بين الصورة ومتولّداتها اللامحدودة. ما تراه العين هو أوّل درجة في سلّم ما قد يراه الخيال، السلّم التي تنتهي حيث لا ينتهي سقف الذهن، وراء التخوم، في طيّات مجاهلكَ.

حَـــــــــــرَج









يدكِ قرب فكركِ مثل الهواء قرب الماء. سكوتكِ تحت عينيكِ نعاس التحفُّز. ولا جزء في المركب إلّا هو الموج، ولا ملحٌ في العشاء إلّا روح من أرواحكِ. وهذه الاختلاجة المتدفّقة تُحْرجكِ
كما تُحْرَجُ الشمسُ بالمطر المتدافع في غفلة منها، مُسْعِداً مُدْفئاً مقيماً من بين الأحياء. هذه الشمس الماطرة هي أنتِ، هي أنتِ، وسواكِ فيكِ ملايين.