الصحافي الرصين، رفيق خوري، على حق. مناقشات ومماحكات مجلس النواب أهمّ بكثير من نصّ البيان الوزاري. تَعلم، لا بل تَتيقّن، أن الحملات الانتخابيّة على الأبواب، عندما تشاهد المداخلات السياسية وتقرأها
أسعد أبو خليل
ظريف هو أحمد فتفت. لا يجد أي حرج في اختلاق المواقف واختراع الأقاويل أثناء الحديث. يقول شيئاً ما، ويضيف قائلاً: «وإعلام المعارضة يؤكد كلامي هذا»، من دون أن يحدّدَ لك من قال هذا الكلام وأين. يتحدّث عن زيارته إلى واشنطن، ويضيف أن في حركة حماس من هاتفه وهنّأه على مواقفه الوطنيّة في واشنطن (وخصوصاً في اجتماعه في مركز صابان الصهيوني)، ليعود ويقول في حديث آخر إن الذي هنأه هو زميل له في حاشية آل الحريري (أسعد هرموش). يتحدّث عن ثكنة مرجعيون ويضيف، أن فلاناً في اللجنة الفلانيّة يؤيِّد ما يقول، وأن وفيق صفا أثنى على مقاومته. لا يجد هذا الرجل من حرج في الحرج. يتحدّث ولا يبدو أنه يلاحظ ما يَلحق كلامه من تناقض ومن إهانة لشخصه الكريم. يقول عن الحقبة السوريّة ـــ الحريريّة إن النواب كانوا يُعَيَّنون. تريد أن تصرخ بوجهه أو بوجه الشاشة: أي إنّك أنتَ ما غيرك كنتَ تُعيَّن من جانب الاستخبارات السوريّة. يقول إن الاستخبارات السورية كانت تُغربِل أسماءَ المرشّحين لتختار منهم المَرضي عنهم: ولا من يسائله بالقول. أي إنه هو نفسه كان مُنتقى من جانب الاستخبارات السورية. هذا هو مسخ الوطن الذي تدوس فيه الطائفيّة البغيضة (التي ـــ كما كرّر مهدي عامل ـــ تستر الصراع الطبقي) شروطَ الحد الأدنى من المحاسبة. عرف هذا الماهر في أصول اللعبة الطائفية كيف يتعامل مع ملف ثكنة مرجعيون: رمى بالملف في حضن نبيه بري. عرفَ أن جوَّ الشحن المذهبي سيسعفُه، كما أسعفَ السنيورة في السرايا الحكومية. ولم يجدْ فتفت غضاضةً من السخرية من جهاز تشخيص مصلحة النظام في إيران (ويجب السخرية من ذلك الجهاز الأوريلي وإن كان فتفت قد أخطأ في إشارتِه، إذ إنه كان يعني مجلس الخبراء)، في الوقت الذي يُجاهِر بتحالفه مع النظام السعودي الذي لا يُجوجل ولا يُغربل المرشّحين، لأنه لا يسمح بالانتخابات من أساسها. إن خطاب 14 آذار يعتمد على فرضيّة غباء الجمهور (ويسود في خطاب الإعلام الوهابي ـــ الليبرالي احتقار للرأي العام العربي، ويصبح احترام الرأي العام نوعاً من «الديماغوجية» حسب وصف حازم صاغية وذلك 1) لأنهم يودّون تسويغ منع الديموقراطية التي ينشدون فقط في الأنظمة التي تعارض مشيئة آل سعود وآل بوش. 2) لأنهم يعلمون أنهم في وادٍ بعيد عن أهواء الرأي العام. 3) بسبب نخبويّتهم التي ترى في سطوة آل سعود وصفة سحريّة للخلاص العربي). ويختم فتفت كلامه دائماً عبر القول «الكل يعلم كم حوربت» من جانب النظام السوري. لا، أنا لا أعلم ذلك، لأني أذكرك في صدارة الحضور في كل الاحتفالات والمناسبات البعثيّة على مرّ سنوات سيطرة الاستخبارات السوريّة. أليس هناك من الإعلاميين من يُذَكّره بذلك؟ لماذا تستمر هذه اللعبة هكذا بلا رقيب وبلا حسيب؟
وكان لافتاً هذا التحوّل الصريح في خطاب الزمرة الحريريّة نحو مزيد من الاعتراف بالمنحى السلفي الذي ينهجه فريق الأكثرية في لبنان. كان محمود درويش يتحدّث عن تربية الأمل، في الوقت الذي كان آل الحريري يربّون فيه السلفيّة في لبنان كسلاح من أجل تعويض ما لم يتيسّر شراؤه بالمال الوفير. ونلاحظ أن فريق مثقّفي 14 آذار المتدثّرين (والمتدثّرات) بالشعارات الليبراليّة، كانوا يُسوِّغون تحالفهم مع قيادة الحريري عبر القول إنهم يمثّلون الإسلام الوسطي الذي وحده يحمي لبنان من تيارات السلفيّة. وهذا الادعاء الذي كان يشير إليه رفيق الحريري تلميحاً، يشير إليه حلفاؤه تصريحاً. والادعاء باطل وهو مستورد من السعودية نفسها، حيث يريدنا أولياء الوهابيّة هناك أن نصدّق أنهم ـــ هؤلاء الذين غذّوا ونمّوا وموّلوا وسلّحوا البن لادنيّين عبر العقود ـــ يمثّلون النمط الوسطي في الإسلام. هل تريد «الأمانة العامة» لـ14 آذار، والتي تضمّ في صفوفها «سوسلوف» الحركة، ميشال معوّض، أن نصدّق أن غزوة الأشرفية التي محيت من الذاكرة ومن الإعلام مثّلت الإسلام الوسطي هي أيضاً؟ ماذا سيفعل هؤلاء في انكشاف تحالف داعي الإسلام السلفي مع تيّار المستقبل؟ سقط القناع، يا سادة (وسيّدات).
وكان سمير الجسر الذي تحدّث باسم تيار «المستقبل السلفي» (في مجلس النواب) أكثر صراحةً ليس فقط في دفاعه عن السلفيّة، بل أيضاً في التماثل مع التعاطي الأمني السعودي مع الموقوفين. وقد لا يُسرّ خاطر الموقوفين السلفيّين من فريق الحريري أن يسمعوا كلام الجسر عن استيراد الوسائل القمعيّة السعوديّة إلى لبنان. هل يريد الجسر أن يستورد إلى لبنان وسائل وصل الأسلاك الكهربائيّة بالأعضاء التناسليّة للمساجين كما يجري في أقبية الأمير نايف؟ أم إن إرساء دعائم الدولة المدنيّة التي يتحدّثون عنها تشمل في ما تشمل تدشين قانون وثقافة قطع الرؤوس (إن أينعت)، والأطراف إن شذّت عن الصراط القويم؟ لكن كلام الجسر يدشّن مفصلاً جديداً في مسار تيار الحريري في لبنان. فما عاد التيّار يروِّج لنفسه على أنه نموذج للإسلام الوسطي، بل ها هو يروِّج لنفسه اليوم على أنه يمثّل ـــ يا للاعتدال ـــ السلفيّة الوسطيّة، وكان كلام الجسر على أهميّته واضحاً في رفع سقف التحالف السعودي ـــ الحريري إلى درجة عالية قد تؤذن باحتدام الصراع بين ولاية الفقيه وولاية بن باز في لبنان.

أولمبياد السّعار الطائفي في مجلس النوابأما الفريق الآخر فكان مهادناً ربما لأنه حصل على ما يريد من خلال تركيبة الحكومة وتفصيل النظام الانتخابي، أو لأنه يستمتع بنهاية عهد بوش وبأزمة جورجيا التي تغلي بالعظات عن لبنان بصورة يوميّة وقاسية. لا ندري لماذا لم تُرسِل الولايات المتحدة المدمّرة كول إلى البحر الأسود. وكان كلام علي عمّار نافراً جداً في طلبه لتطهير «النّيع». وصياح عمّار يؤذن بنيات قمعيّة دفينة ما كان يجب أن تصدر تحت قبة أي برلمان. ومن سيشرف على عمليّة تطهير الأفواه هذه، ومن يقرّر أية كلمات هي مباحة (اسألوا فخري كريم عن شروط «النقد المُباح») وأية كلمات هي المحظورة من دون التطهير؟ لكن هذا النمط يسود بين كل الأطراف، ولا يمكن هنا لتيار المستقبل الذي يسارع إلى تصنّع العفّة والديموقراطيّة أن يتظاهر بالهوْل لأن تاريخه لا يشفع له. وسجلّ رفيق الحريري حافل بمحاولات (بعضها ناجح وبعضها فشل مثل مشروعه لقمع الإعلام الذي قدّمه في ورقته المقدمة إلى مؤتمر الطائف، ويُراجع نصّه في كتاب جورج بكاسيني، «أسرار الطائف») كمّ الأفواه وإغلاق وسائل الإعلام بالتعاون مع النظام السوري.
أمّا استقالة حسين الحسيني من المجلس فيُمكن أن تُعدّ من أكثر الاستقالات غموضاً وإبهاماً قد يكون مقصوداً. ولماذا تمنّع الحسيني، الذي توفّق في إطلاق صفة «الشخص» على حكم الحريري التفرّدي أثناء حكم سيطرة النظام السوري في لبنان، عن تسمية الأمور بأسمائها، وعن توجيه أصابع الاتهام؟ ولماذا كانت الاستقالة في آخر عمر المجلس، مع أن الأمور جلت ببواكيرها غداة الانتخابات الماضية؟ ولماذا تعاملت كل الأطراف في لبنان مع الاستقالة وكأنّها تثبيت لمواقفها هي؟
وكان مصباح الأحدب في خطابه وفي إطلالاته التلفزيونيّة الأخيرة مضحكاً جداً. فالرجل يظهر بمظاهر متعدّدة ومختلفة، حتى كأنه يحتفل يومياً بعيد البربارة. والأحدب ممثّل شبه بارع، إلا إذا تذكرتَ أنه يدور مع الدوائر ليدور من جديد. والرجل، مثله مثل أحمد فتفت، يردّد لازمة النفاق المعهودة: أنه حورب زمن الوصاية، مع أنه كان سياسياً بارزاً ومرضياً عنه، كما أنه عرضَ أن يرقصَ بالشمعدان يوم زار بشار الأسد لبنان قبل اغتيال الحريري، وهو أكّد يومها أن بشار وضعَ العلاقات اللبنانية ـــ السورية على السكة الصحيحة. هو قال هذا الكلام. والأحدب مستعد لأن يظهر بلبوس السياسي المدني، كما أنه مستعد لأن يظهر بلبوس السلفي الغوغائي. وصيحاتُه في مجلس النواب ودفاعه عن الفيحاء لم يكن ثورة غضب على الإطلاق، بل كان موقفاً انتخابياً مدروساً ومحسوباً بعناية. وعلى الشعب اللبناني أن يتوقّع المزيد من فورات الأحدب وثوراته الذي يحاول اليوم أن ينافسَ داعي الإسلام الذي يزور ويُزار هذه الأيام. والأحدب يستطيع أن يصرخ وأن ينطق باسم معتقلي فتح الإسلام في الوقت نفسه الذي يلهج بحمد الدولة المدنيّة (وإن تبنّت العقيدة الحشويّة).
أمّا التيار الوطني الحر، فرفع من وتيرة صوته في قضيّتيْن تشغلان باله. فالموضوع الاقتصادي لا يختلف فيه مع السنيورة، وقد يكون مع تسريع وتيرة الخصخصة والربط الرأسمالي للبنان بالمركز، لكي نستعمل مصطلحات نظرية التبعيّة الاقتصادية (يُراجع كتاب العالم الإماراتي عبد الخالق عبد الله في هذا الصدد والذي لم يعتره الصدأ بالرغم من مرّ السنوات). والموضوع الأول ورد في خطاب القسم ويتعلّق بمجرمي جيش لحد وعوائلهم. وهذه القضيّة ليست إنسانية إلا من حيث الضحايا الذين قُتلوا وجُرحوا وعُذِّبوا في أقبية عملاء إسرائيل المتعدّدي الطوائف (يجب أن نذكر ذلك قبل أن يطلع البطريرك الماروني علينا بحجة طائفيّة). وصحيح أن تلك العائلات تعاني في فلسطين المحتلة، لكن هذا يعود إلى الخيانة العظمى التي ارتكبها عملاء جيش إسرائيل في لبنان. وإن أي تهاون في هذا الموضوع سيؤدّي إلى إعادة الكرّة كلما سنحت الفرصة الإسرائيليّة والطائفيّة. وموضوع الخيانة عبر التعامل مع جيش احتلال العدو لم تتهاونْ فيه الأنظمة الديموقراطيّة الغربيّة التي تُعدّ المثال المُحتذى عند البعض. وقد جرت إعدامات بعد الحرب العالمية الثانية لمن تعامل مع الاحتلال، حتى وإن لم يُلوّث (أو تُلوَّث) يداه بالدم. وهؤلاء ليسوا لاجئين إلى إسرائيل: هؤلاء هربوا من وطنهم ليحتموا بالعدو، ولذلك تبعات قانونيّة لا يمكن التهاون معها (وإن ستغفل عن بال وزير العدل الكتائبي العريق)، إلا إذا أراد لبنان الجديد أن يجعل من الخيانة العظمى والتعامل مع جيش العدو مجرد وجهة نظر. لعل التهاون مع جيش لحد هو ما يعنيه فريق 14 آذار بـ«حياد لبنان الإيجابي»، أي إن لبنان محايد في مسألة الصراع مع إسرائيل، وهو قد ينحاز إيجاباً مع إسرائيل كما فعل أمين الجميل في رئاسته التي أنهاها بالارتماء على أعتاب قصر المهاجرين.
ولماذا هذه الحماسة من جانب التيّار في هذا الموضوع؟ وماذا عن سد شبروح؟ إذا كان هذا الموضوع من باب الحشد الانتخابي بصبغة طائفيّة، فهو مهين بحق الناخب المسيحي (والمسيحية)، لأنه يفترض أن جيش لحد كان من فريق طائفي واحد، مع أنه جمع كل الطوائف، أو العملاء من كل الطوائف. وإثارة الموضوع في الفترة الحرجة التي يمرّ بها لبنان (لبنان لا يغادر الفترة «الحرجة» للحظة) يثير شكوكاً بشأن تغيير هويّة لبنان، وبشأن استراتيجية الجيش والوطن. وقد بثّت شبكة القوات اللبنانيّة في برنامج «بكل وقاحة» تقريراً مقزّزاً عن عملاء جيش لحد في فلسطين المُحتلّة، أوضح فيه هؤلاء أن ما فعلوه لم يكن خاطئاً أو شائناً. قد تطالب مي شدياق بالعفو عنهم وبوضعهم على اللوائح الانتخابيّة. وأضاف قسّ في البرنامج نفسه أن هؤلاء كانوا يدافعون عن أرضهم... في أقبية التعذيب في الخيام.
أما الموضوع الثاني، فهو التوطين. وموضوع التوطين مقيتٌ في الثقافة السياسيّة اللبنانيّة وهو (لا) يخفي محاولات طائفيّة للحشد: استعملته حركة أمل الطائفيّة الشيعيّة في انطلاقتها الثانية في أواخر السبعينيات، واستعملته قوى اليمين الكتائبي على مرّ السنين. هل هناك ممّن يحاولون وعظ الشعب الفلسطيني عن مخاطر التوطين، من وطأَ أرضَ مخيّم فلسطينيّ في لبنان؟ هل منهم من رأى مفتاحَ بيتٍ في فلسطين مُعَلّقاً في أكواخ اللاجئين؟ هم يخشون التوطين بسبب حساباتهم الطائفيّة والمذهبيّة الرخيصة، ولا يكترثون بما يحلّ بالشعب الفلسطيني، وخصوصاً أن من يخطب ضد التوطين شن حروباً على المخيّمات الفلسطينيّة (وقد ساعد ميشال عون في موقعه في الجيش اللبناني آنذاك في دك مخيّم تل الزعتر). الضمان الوحيد ضد التوطين، فلسطينيّ لا لبناني. وجبران باسيل ليس في موقع ليعطي دروساً في الوطنية الفلسطينية لـ«الذي خلقا، من جزمةٍ أفقا». الشعب الفلسطيني في لبنان لم ينفك منذ 1948 عن محاولة العودة (السلميّة والمسلّحة) إلى أرض فلسطين ـــ أرضه هو وأرضها هي ـــ لكن الإسرائيليّين واللبنانيّين هم الذين منعوهم. وهل كانت اتفاقيّة الهدنة (التي يتمتمُ باسمها وليد جنبلاط خمس مرّات في اليوم وقبل الأكل وبعده) إلا لتحويل الجيش اللبناني إلى حرس حدود لدولة إسرائيل؟ والقرار 1701 وعودة الجيش إلى الجنوب هي عودة لهذا الدور الخبيث للجيش. أما إذا كانوا صادقين (وصادقات) في منع التوطين، فليعودوا إلى اتفاقية القاهرة وإلى إطلاق العمل الفلسطيني المسلح في لبنان.
أما أكثر ما أهان ذوق المشاهد، فكان صورة صولانج الجميل وهي تخطب تحت قبة البرلمان. لو كان بين النواب من يحرصُ على السيادة حقاً، لصرخوا بوجهها: أنتِ التي كنتِ تُعدّين الأطباقَ بيديكِ لأرييل شارون. أنتِ التي دعوتِ أرييل شارون وعائلتَه (كما روى في مذكّراتِه) لزيارة قصر بعبدا قبل أن تطأه قدماك. أنتِ، ألا تخجلين من التحدّث عن مسائل التحرير وعن شبعا؟ لو كان في لبنان محاسبة للتعامل مع المحتلّ، أما كنتِ ستظهرين حليقةَ الرأسِ مثل اللواتي تعرّضن للتشهير من جانب المقاومة الفرنسية بعد التحرير؟ ولم تلاحظ الصحافة اللبنانية أن صولانج أشارت إلى إسرائيل بأنها «مفترض» أن تكون عدوة، ربما لأن جريدة «السفير» منهمكة في سيل الدموع المهراقة لعدم توزير نهاد المشنوق الذي يُغيِّر مواقفه بعد كل زيارة إلى واشنطن أو إلى السعودية. لماذا ساهم من قاوم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان في إيصال صولانج إلى الندوة البرلمانية؟ كنا نلاحظ أنها تلفظ كلمتيْ «سوري» و«فلسطيني» وكأنهما كلمتان نابيتان، وإذا بالجميع يُقلِّد اللفظ، مثلما أصبحت لكنة بشير الجميل سائدة في مسخ الوطن.
وهناك ما يشغل بال الإعلام في لبنان بعيداً عن جلسة مناقشة البيان الوزاري الذي يحملُ بصمات اليساري السابق، طارق متري (صاحب الخطاب الفاشل في مجلس الأمن في حمأة العدوان الإسرائيلي على لبنان). ويساري سابق آخر، أو واحد منهم في نشرة المستقبل، يرى أن مجلس التعاون الخليجي هو أفضل تكافل إنساني في تاريخ البشرية منذ العصر الحجري فقط. ونشرة المستقبل أفردت تقريراً مفصلاً عن الأنفاقِ السريّة في غزة، وأضاف مراسُلها أن الأنفاقَ هي «مضرّة بـ...المجتمع» (هل أصبح المجتمعُ مرادفاً لإسرائيل في قاموس الحريري السياسي؟). ويقظان الطقي (في نشرة الحريري نفسها) هجا زياد الرحباني لمجرَّد زيارتِه دمشق، وأضاف يقظان (الذي انتقد بعنف قبل أشهر سمير عطا الله لمجرد انتقاده لمرّة واحدة موقفاً لـ14 آذار وعَيَّرَه بالتسكّع في بلاطات الملوك، وكتب كلامه في نشرة صادرة عن بلاط الحريري الخاضع لنفوذ البلاطات نفسها التي يحرص عليها سمير عطا الله ـــ حسّ المفارقة معدوم في الإعلام السعودي ـــ الحريري) أن الغناءَ والموسيقى مرفوضان أخلاقياً إلا في مهرجان الجنادرية (الذي رفض محمود درويش المشاركة فيه عن مبدأ). ومصباح الأحدب، داعي الدولة المدنيّة (وهو غير داعي الإسلام في المدينة نفسها) حذَّرَ اللبنانيّين واللبنانيّات من نقد النظام السعودي، وطالب بتطبيق قانون همايوني للحفاظ على قداسة آل سعود. وفؤاد السنيورة عاد من أول زيارة له بعد نيل الثقة (ثقة من؟) إلى مصر: هو أراد أن يستعلم من حسني مبارك عن طرق التحنيط التي أبقتهُ رئيساً لعقود متوالية. ولماذا لا يُحنَّط السنيورة إذا كان هذا يعزِّز من ثقة «المجتمع الدولي»، وخصوصاً بعد الخضّة في جورجيا التي كادت أن تقصي برئيس «منتخب ديموقراطياً» وإن نال نحو 96% من أصوات المقترعين، أي إنه رئيس على طريقة حلفاء أميركا من العرب. لكن لماذا لم يذهبْ سعد الحريري إلى جورجيا لحل الأزمة هناك، كما حل من قبل أزمات إقليمية أخرى؟ وهل يمكن الحديث عن مصير الرئيس الجورجي من دون الحديث عن مصير السنيورة، وخصوصاً أن الـ«نيويورك تايمز» ذكرت أن كوندوليزا رايس (أو «كوندي» كما يسمّيها جنبلاط للتحبّب) طمأنت الرئيس الجورجي قبل أسابيع فقط من الاجتياح (أو التوغل كما سمى شفيق الوزان التدخل السوري في عام 1976) الروسي أن أميركا لا تتخلّى عن أصدقائها، مع أن الجنرال مشرّف (المُنتخَب ديموقراطياً) استقال مذعوراً من الإقصاء الدستوري؟
لكن لماذا مرّ خبر استقبال طارق متري لسفيرة جورجيا في لبنان هكذا عرضاً، مع أن هناك احتمالاً أن يكون الوزير متري قد طمأنها أن الشيخ سعد سيعمد إلى إرسال ميليشيا الشركات الأمنيّة إلى جورجيا لتحريرها، أو قوات الدحلان المتسربلة بالسراويل الداخلية؟ ويمكن أيضاً إرسال فارس سعيد الذي قاد حملة «فل» الناجحة إلى هناك أيضاً لتدبيج خطاب وشعارات تحريريّة. وسعد الحريري طالب بتحرير جزيرة أبو موسى: أما مزارع شبعا فيمكن أن «تُسترجَع»، والاسترجاع (العبارة الرسمية اليوم في خطاب 14 آذار عن المزارع) هو إشارة إلى استعارة مُهذَّبة من جانب إسرائيل لأرض لبنانيّة. ثم من لاحظَ أنه ما إن دعا بوش العرب إلى التطبيع مع حكومة الاحتلال في العراق حتى تسابق زعماء عرب (منتخبون ديموقراطياً طبعاً) إلى بغداد: من عبد الله بن زايد إلى الملك عبد الله إلى سعد الحريري إلى السنيورة؟ وهل سيضع السنيورة وردةً حمراءَ على قبر عبد الستار أبو ريشا؟ من باب الوفاء، ليس إلا.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)