لا نزال في بلد الطوافانات السياسية والعسكرية التي تخلّف وراءها آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف المعوّقين. لا نزال مختلفين حتى على الاسم. نرجع إلى أصل الاسم حتى نقع على الجودة. إننا نراوح أمام ثلاثية ورباعية لبنان هو:... الأبيض أو كذا أو كذا. أبيض على البحر الأبيض، سوف يأكل الأبيضان بعضهما بعضاً. يغيب أبيض ويبقى أبيض. آلية محكومة بفناء واحد على حساب الآخر
عبيدو باشا*
(إلى أمل حوا)
لا يزال البلد، على الرغم من كلّ شيء، علامة أكيدة فوق الخارطة الإقليمية والدولية. بيد أنه بلد علاقة أكيدة بهزّة سابقة وهزّة راهنة وهزّة لاحقة. إنه بلد الهزات. إنه يبقى، ولو أن حمم انفجاراته القديمة الفاترة والحامية، بقيت تهزّه بدون أن يهتز أهلوه. يهتزون قبل أن ينسوا أنهم اهتزوا. لأن البلد اهتز. وهكذا.
لا تزال البلاد فوق صفائحها التكتونية غير المكتشفة بعد. لا يزال البلد فوق فوالقه. لا يزال البلد بلد عمالقة غافية. تنام. وإذا أفاقت نسمع هديراً قوياً، ينبئ بأن البلد سينتهي. إلاّ أنه يبقى. بقي البلد ولا يزال منذ آلاف السنين بحسب الحكايات الشعبية التي يؤثر اللبنانيون روايتها في مقابل الخوف والموت. لا عجب في ذلك. ذلك أن الأساطير تجد مراتعها في البلاد المهدّدة بالفناء. عندنا أكثر من عشرة آلاف سبب يهدد البلد بأنه سيختفي عاجلاً أو آجلاً في الهواء أو في قاع البحر. طقسه ينفي ذلك، فيما يؤكده السياسيون، خسر السياسيون رهانهم هذا، لأن لبنان حاجة لغير أهله. لأن لبنان محجّة لغير أهله. إنه حاجة للعالم، يرذله أهلوه في إخبارهم الأجنبي بأنهم غبّ الطلب، وأن لا حياة لهم بلاهم. وهذا صحيح. ولكن من وجهة مغايرة. لبنان حاجة دولية. حيث تنفّس الاحتقانات هنا. لبنان حاجة عالمية، حيث تتجاور الحقارات والحضارات هنا. بلاد حرب حضارات هو لبنان. بلاد حفر حوارات هو لبنان. هكذا هو. ولم يضحِ هكذا منذ سنة أو عشر سنوات قط. ولبنان هو اللبنانيون. لن يسأل أحدٌ أحد المواطنين عن يومه. لن يسأله عن صور نهاره. لن يسأله عن معيشه أو إيقاعه. سوف يحقنونه بالترّهات الطائفية والمذهبية والفئوية. سوف يحقنونه بكل ذلك وهم يرددون أمام الأجانب أن النساء هنا هنّ أجمل نساء العالم. وأن النساء هنا هنّ أكثر النساء تحرّراً في العالم. لن يقولوا: لبنان بلد رسالة. قالها البابا يوحنا بولس ومات. لن يقولوا: لبنان بلد كوسموبوليتي. غير أنه لا ينجب خلاسيين وخلاسيات. هذه واحدة من أعاجيبه. لن نصدق أن جعيتا أعجوبة. ولا شجر الأرز. الأخير أكله السوس. بتّ أتخيّل أن السوس هو لوغو علمنا الجديد. بتّ أتخيّل أن على السفراء المعتمدين والزوار الأجانب والسياح والرؤساء أن يبحثوا عن الأرز في صواني السوس. صوانٍ لا تشبه صواني سيدات البيوت الطيبات الباحثات عن السوس في العدس. السوس واضح في العدس. إلا أنه عميل مزدوج في الأرز. ويأكل الأرز، يخفيه ويختفي فيه. معجزة لبنانية جديدة، غير المعجزات القديمة. الأشبه بصفحات مجلة نسائية قديمة، تحتلها أكثر الموديلات طلباً. وأكثر المرشحات على عرش الجمال. طويلات، نحيلات، بيضاوات البشرة، شقراوات الشعر. نساء نموذجيات لا ينوجدن إلا في المجلات وعلى شاشات التلفزيون. ولكنهن يشخن باكراً. ونحن لا نشيخ. لأن أعمارهن أعمار صحة اصطناعية. فيما أعمارنا أعمار راوحت بين النضال والرومانسية. نضال رومانسي ازدادت قطبه قطباً بالمعاناة والتضحية. إنهنّ يضحكن ويبكين وهنّ يحكين تماديات الأزواج والعشاق. ومن ثم تماديات الأزواج والأولاد. ونحن: رفقاء نسوة مقاتلات صالحات. ورفيقات رجال صالحات. لن يأخذ أحد شغفه إلى الثغور، لكي يراقب سيدة وهي تنتظر إنزالاً إسرائيلياً بقاذفها الصاروخي الفردي. صبيّة تروتسكية جميلة، تركت كل شيء خلفها لأنها صدّقت نفسها قبل أن تصدق الآخرين. لن يروي أحدٌ حكاية الشاب المرابط في كم قميصه بانتظار الدبابة الإسرائيلية لكي يصليها في الجبل أو بيروت. انقلبت المعادلة اليوم مع اشتباكات دولة بربور في مقابل دولة طريق الجديدة. أو حي التمليص باتجاه أحياء بيروت المهجوسة بالأمن والاختراق.
كمجلّة لا يسعها إلا نشر صور الحروب
لم نعد مرتبطين بالأرض كما ترتبط الشعوب بالأرض. لن أحلم بامتلاك بيت صغير لكي لا أُتّهم بالبورجوازية. هكذا أوصف لو هممتُ خلف بيت صغير ووظيفة صغرى أو مصلحة صغرى. ثم إنني لستُ أمتلك بيتاً. لأن مَن يمتلك منزلاً في لبنان لا يملكه بسبب إسرائيل. كلّ منزلٍ هو ملك دولة العدوان منذ قديم الزمان. كلما عنَّ لها وزَّت طائراتها في أجوائنا. وكلما عنَّ لها حفرت دباباتها ببلادنا. وكلما عنّ لها دهمت زوارقها وبواخرها شواطئ بلادنا الطيبة. قلبت إسرائيل لبنان إلى بلد طوبوغرافيا مأسوية وسط طقوس تعدّده وتنوّعه. قلبت بلدنا دائماً بمبادرات خاصة بها. قلبته في أعوام 1976 و1982 و1993 و1996. لم نرشقها بوردة. اعتمدت نزواتها: لا مانع لديها من أن تطلق النار على سفيرها في لندن عام 1982 لكي تجتاح لبنان. لا مانع لديها من أن تتمرد على القرارات الدولية، وأن تتمرد على الحياة. بحيث هالها أن يرى جنودها بقرة حية على الحدود بين البلدين. لا مانع لديها من تنفيذ القرار 1559 في يوم، في شهر، في سنة. لا مانع لديها من تنفيذ القرار 1701 في يوم، في شهر، في سنة. لا مانع لديها في أن تؤجل تنفيذ القرار 425 ربع قرن. لا مانع لديها هي والدميم العام للأمم المتحدة. نسي العرب عبد الناصر، حين تفرّغوا لمعجزاتهم البيولوجية المكتشفة في الكره والحقد والضغينة (من كل الأطراف). نسوا أن عبد الناصر هو صاحب المقولة الشهيرة: ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوّة. أضحت القومية العربية موضة. لعلّها موضة دائماً. موضة الأزمنة. غادر القوميون قوميتهم إلى فئوياتهم الضيقة الأقرب إلى زواريب التقاتل في بيروت. أضحى الباقون في قوميتهم بأقاليم خاصة بهم. أقاليم تمتد من عيونهم اليمنى إلى عيونهم اليسرى. وتمتد في أجهزتهم العصبية.
أضحوا هكذا في بلد دُرزت خريطته بالأرقام. دُرزت خريطته بهذيانات حسابية لا طائل منها. أو غير مفهومة. 11 ـــ 3 ـــ 16 أو 10 ـــ 10 ـــ 10 أو 30 ـــ 30 ـــ 30. ودائماً على جثث الشعب اللبناني، لأن الخلافات تقود الفقراء إلى الفقراء، حيث يأكل الفقراء الفقراء في الشوارع والأزقّة والزواريب. لن يتذكر أحد الآن: سبب خلاف السياسيين. لن يتذكر أحد الآن: سبب صلح السياسيين. أذكر: أن إسرائيل سعت في عام 1982 إلى صلح مع لبنان عبر معاهدة سلام. أذكر: أن معاهدة السلام تحتاج إلى طرفين متنازعين متخاصمين لكي تصالحهما. ونحن قبلاً: لم نرمِ إسرائيل بوردة. عجيب: إصرارها على أن تصالحنا بدون أن تسمح لنا بالاعتداء عليها ولو لمرة واحدة. أذكر: أننا قاتلنا في عام 1982 قوات مجتاحة. ملأ الإسرائيليون بيروت ذلك العام بالمعلبات الفارغة والروائح النتنة والخراء. لم أنسَ: اقتيد الشبان إلى شاطئ البحر قبل فرزهم ودرزهم أو حملهم إلى المعتقلات داخل الأراضي اللبنانية أو داخل فلسطين المحتلة. أرجو أن لا تغضب التسمية الأخيرة أحداً.
هذا بلد معجزة بيولوجية. لن أصدق ذلك، ما دامت إسرائيل تتوعّده بالمأساة الدائمة. هذا ليس سبباً للصلح. لا ملاحق لما أُشير إليه: لو تسمح لنا بالاعتداء عليها في شهر حزيران أو تموز أو أيار. سوف نعدّ العدّة بسرعة قياسية، لو سمحت لنا. عدوان صغير، ننزل خلاله من الجبال الشاهقة إلى المستوطنات المبنيّة في أراضي اللبنانيين والفلسطينيين. لم أنسَ عام 1982، رغم أنه مرّ ثلاثون عاماً على ذلك. لم أنسَ عام 1982، رغم أنه مرّ أكثر من ربع قرن على ذلك. هرب الناس في الشاحنات والتاكسيات والجرارات الزراعية. اجتازوا صحارى وصحارى بعد أن أصبح البلد صحراء في غزو الهجّانة الإسرائيلية للبنان. إسرائيليون مغاربة ومشارقة في المقدم. لا مدينة حديثة في ذاكرتي. دمرت بيروت منهجياً بيد القوات الإسرائيلية، لكي يتحوّل ميناء بيروت إلى ميناء مهجور تحت معادلة ميناء بيروت أو ميناء حيفا. دمرت بيروت منهجياً بيد القوات الإسرائيلية. دمروها ليس لأنها أصبحت كيلومترات وكيلومترات من الوحشة الشبحية، أو مقبرة مهجورة أو أبنية خربة من باطون، بل لأن لبنان هو ميزان حرارة إسرائيل. حضوره يجفّف حضورها. حضوره في مقابل حضورها. بلدٌ نموذج يقابله بلد عنصري يحتقر شرقييه ويمجّد غربييه. هذا ليس دفاعاً لا عن الفالاشا ولا عن عشرات الآلاف من اليهود الذين عادوا من بلاد العسل والبخور إلى جذورهم بعد أن اكتشفوا أنهم أعلاف النظام الإسرائيلي «الديموقراطي». نظام لا يزال مستوطنوه يراوحون بين سفارديم وأشكيناز. إنها تتكاثر مع ذلك. أليس كذلك: نظام يسمّي بلده بالشمال الصغير قبلة الأميركيتين وأوروبا وسائر بلاد العرب وآسيا وأوقيانيا وأفريقيا وبلاد عالم السينما الهوليوودية وسينما سبيلبرغ.
لبنان أحد المراكز الروحية على الأرض. ليس بلدي بلداً مصطنعاً، ولا حشرة تافهة. وجدته منذ ولادتي، ولا أزال أجده، وسوف أبقى أجده خلال سفري فوق غيمة تنفخ في نفسها كما يفعل راعٍ في مزمار، لكي لا تسقط وأسقط. لبنان بلد الرجال المغبّرين الطامحين إلى حياة فضلى ومناخ أفضل وحلم أجمل. لبنان بلد طاقة كونية. إنه يهدّد بذلك بدون تهديد. تشقّقت أيدينا وأرجلنا ونحن ندافع عن بلد يهدّد بلا تهديد. لم تتشقّق شفاهنا، لأننا ضد الخطابة والتصريح والتجريح والتلميح. لبنان أحد المراكز الروحية على الأرض. روحي غير ديني. روحي غير مذهبي. لن ينقص من جوهره محور سعدنايل ـــ تعلبايا الجديد. ولا: المطار في مقابل المصنع. لا أكاديمية هنا. لأن الخبر ليس بحاجة إلى تفسير. قضى الزعيم الوطني كمال جنبلاط ردحاً من الزمن يداري، بعدها: خرج على المداراة. الاختلاط رأس مال لديه. والموحّدون ليسوا طائفة، ليسوا مذهباً. إنهم أبناء حضارة عريقة. حضارة الفاطميين. لا مراءَ ولا خجل ولا شكوك ولا حسيّة. لأن الكلام هذا ليس كلام إغواء. إنه واقع لبنان. لبنان بلد روحي، لبنان أحد المراكز الروحية في العالم. دروزه أبناء حضارة، أو جزء من حضارة. سنّيّوه جزء من أمّة. شيعته جزء من تكوين. مسيحيوه جزء من العالم. لبنان بلد فحل. مشكلته أنه يغوي نفسه بنفسه. مشكلته: أنه يقدم نفسه دائماً بوصفه مستعمرة. لبنان مبتدأ، لبنان خبر. لبنان خبر، لن يصبح خبراً. إنه أحد أكثر البلدان عنفاً: في المنزل، في الشارع، في المؤسسة حيث يجري الانقضاض بمعاملة شرسة على الآخر. لبنان بلد الإلغاء. الأخير أشد أنواع العنف. لا ملاجئ فيه ولا برامج تربية ولا حماية ولا وعي طبقياً. سقط الوعي الطبقي في الحرب الأهلية اللبنانية. انتصرت الطائفية بخسارة المشروع العلماني، عنف على عنف. نحن ندفع اليوم ثمن خسارة مشروعنا العلماني، وتمرّدنا على الستاتيكو الإقليمي والعالمي، ومقولة قوة لبنان في ضعفه.
اندلعت عشرات الحروب في لبنان. حروب داخلية وأهلية ومحلية ومناطقية وعربية وإقليمية ودولية. إنه كمجلة لا يسعها إلا نشر صور الحروب ومآسي الحروب. يُعدّ لبنان ـــ على الرغم من ذلك ـــ بلاد سلام. مفارقة لاهثة أخرى. بلد تحت الضغط المستمر، بلد تحت الضغط الدائم. ولا يزال حياً. إنه بلد قشرة ولبّ. لم يحسم البلد خياره بين الأوراق النقدية وبين تأمين الحساء للفقراء. لم يحسم خياره، لا هو بلد صناعي ولا هو بلد زراعي. هو بلد المهاجرين إلى المغتربات أو الداخل. بلد بلا خطط صناعية ولا خطط زراعية. يأتي الريفيون من قراهم أو المحافظات المهملة. يأتي الريفيون بحثاً عن شغل. تجمعات سكنية فطرية، تنمو وتنتظم عند أطراف الأحياء الغنية. ما إن يستولي الناس على أرض حتى يصبح من المحال انتزاعها منهم أو منع استمرار تدفقهم إليها. بيوت تصطفّ على امتداد شوارع صغيرة غير مسفلتة، تلعب بها في الصيف زوابع الغبار وتضحي موحلة في الشتاء. إنه التعبير عن فقدان الأمل. يا ألله على هذه البلاد البطلة. يا ألله على هذه البلاد الضحية. بلد الحظ وسوء الحظ. بلد سوق الحظ في آن: بلد سوق. بلد مصرف. بلد مرفأ. بلد مطار. بلد نظام بلا نظام. بلد وفرة واختناق. بلد محظوظين ومغلوبين على أمرهم. بلد شاطئ وجبل بلحظة. بلد صافٍ، صاحٍ، صحو، تهدّد رياحه بسرقة سقوفه. وتهدّد رعوده وبروقه بتقويضه. يستمر ويبقى ولا يزال. فرط الاتحاد السوفياتي الجبّار ولم يفرط لبنان. هُدّد لبنان بالتقسيم على مدى عشرات السنين. احتفظ بوحدته. قسّم الاتحاد السوفياتي الجبار بعد أن اعتلى يلتسين لاعب كرة اليد بيد ناقصة الأصابع دبابة سوفياتية عند باب البرلمان. وحين لفظ غورباتشيف: غلاسنوست، وبيريسترويكا، اندثر الاتحاد عن الخارطة. أعجوبة؟ بل خارطة دولية جديدة رسم الاتحاد السوفياتي فيها عند جبال شديدة الانحدار، وترك لبنان فيها بموقعه كالبصمة. بصمة في قلب ملحمة لا تنتهي. ملحمة في قلب أوديسه لا تنتهي. ملحمة في قطار يغيّب الأشياء بشهية فلكيّة.
لم نستعمل عام 1982 لا الإبر، ولا التقويمات ولا صور القديسين. استعملنا سلاحنا الفردي بلا سحر ولا بهلوانات في مقابل جيش من اللصوص والمتسوّلين في طائرات ودبابات ومصفحات وفرقاطات وبوارج غنية. كنا مجانين ونحن نواجه المزاج السيّئ للعالم. ولا يزال مزاج العالم يسوء كلما عنّ لقادته أن يسوء مزاج العالم.
انتصرنا في عام 1982 دون أن نقاتل، لأننا ديالكتيكيين أولاً. حسبناها: لن ينتصر غازٍ في قلب مدينة أحبَّها ناسها حتى العذاب. ثم قاتلنا بالرشاشات الخفيفة والقذائف الصاروخية الخفيفة. لم نخَفْ من حجم الآخر. بالمقابل: رمينا الجيش الغازي بالرصاص والقذائف والإيمان. ما طلبنا صدقة أحد في تلك الأيام العصيبة. انتقلنا من مسربٍ إلى آخر بدون إشارة. غابت الأضواء الحمراء إذّاك عن شوارع المدينة. انتصرنا على مشروع تحويل لبنان إلى زرائب. وسوف ننتصر. حتى هؤلاء الذين يقاتلون بعضهم بعضاً في شوارع بيروت والمناطق البعيدة سوف ينتصرون. سوف ينتصرون جميعاً. لأن لا عدوّ لهم إلا عدوهم: إسرائيل. لم ننسَ طيران الدبابات الإسرائيلية فوق السيارات اللبنانية في بيروت. لن ننسى حواجز الرعب والذل، ولا البشر الصامتين. أطفال وفتية وشباب ونساء وعجائز، حوّلتهم الطائرات الإسرائيلية إلى منحوتات مغبرة. لن ينسيني شيء الطفل المحمول بيدي رجل إنقاذ. طفل تنافسه مصّاصته على طوله. طفل ـــ منحوتة. إنه عنوان مرحلة. ذلك أنه: كلما اعتدت إسرائيل على لبنان واللبنانيين، على الجنوب والجنوبيين، أنتجت جيلين حاقدين عليها. أنتجت جيلين مقاومين، من صلفها وغرورها وشرورها. اختصاصية ارتكاب الحماقات، سوف تدفع الثمن. إنها تدفع الثمن. إنها تدفع ثمن اللجوء إلى الاعتداء المستمر بهدف إحداث أعطاب سياسية لدى الأشخاص والعامة والدولة والسلطة بمعدات حديثة، بل هائلة الحداثة. هرب أبي بإخوتي من إسرائيل. هربتُ بأولادي من إسرائيل. جيلٌ بعد جيل. انفخت دولاب السيارة عند أحد مراكز القوات السورية. أغارت الطائرات الإسرائيلية عشرات المرات أمام الأولاد. أغارت على الأولاد عشرات المرات. أولاد مثل شمس صباح تحجب طائرات إسرائيل شمسهم عنهم. أضحى الأولاد اختصاصيين بالهوائيات والكابلات الموصولة بالكواكب. أضحى الأولاد أصحاب اختصاص إنترنت ومواقع الإنترنت. كله مُسَخّر ضد عدوّهم. إسرائيل توربين الطائرة. إسرائيل محرّك الدبابة ومدفع المدمرة. إبداع أولادنا وذكاؤهم غير محدودين. كل هذا مسخّر ضد عدوهم. لأنهم أدرى بأن عدوهم صاحب ألقاب غير مشرّفة. وصاحب مغسلة يدين كبيرة. يذبح الآلاف ويغسل يديه في مغسلته هذه. عدوٌ بحياةٍ مديدة. هكذا بدأ الأمر منذ وهلته. عدوّ بحياةٍ أشبه بأية حياة أخرى. هكذا أضحى الأمر منذ عام 2000. عدوّ بجرعات. كل جرعةٍ بعددٍ من السكان. لذا، سيطلق الأولاد النار على عدوهم بمسدس مسامير، في غياب الأسلحة الجديدة. لأن إسرائيل لن تسمح لأحد بأن يموت إثر سقوطه من الطابق التاسع وهو يركب نافذةً من زجاج، أو أن يموت إثر تعثّره في أحد شوارع لبنان، أو خلال السباحة أو التزلج أو الدراسة.
المأساة، القضية، خيبة الأمل، الفراغ، حياكة الفتن، المزاج، اللارأفة، المقت. هذه صفات تدفع دولة عدوّة إلى استمرار عدوانها. لن تصالحنا حتى ولو صالحناها.
(تذكّروا مؤتمر القمة العربي: مؤتمر بيروت) حتى ولو استقتلنا لمصالحتها. سوف تعتدي، لأنها غولُ عدوان. ولأن العدوان حياتها. ولن يفقد أحدٌ حياته بفقدان محرّك حياته. هذا دين الغرينغو الإسرائيلي. اسألوا الرئيس جورج دبليو بوش بطل الخطب المرتجلة عن ذلك. لسنا أبناء عمّ.
* كاتب ومسرحي لبناني