هشام البستاني *تلجأ الرأسمالية دائماً، في سياق اندفاعها الشرس للهيمنة على الأسواق وتعظيم الأرباح، إلى نشر مجموعة كبيرة من المصطلحات والمفاهيم النظرية الدعائية الموجهة تحديداً إلى بلدان الجنوب، وذلك لخدمة هدفين رئيسيين:
الأول: دفع الجنوب (بوسائل مختلفة منها الوسائل المعرفية مدار بحثنا) لتبني نظم اقتصادية / سياسية تسهّل اختراق المراكز لها وإلحاقها بنيوياً بشكل كامل.
الثاني: تغيير المفاهيم المعرفية والاستراتيجية عند جمهور المتأثرين سلباً بالاختراق والإلحاق (وهم معظم سكان الأرض، وخصوصاً سكان الجنوب منهم بوجه خاص)، وبحيث تتبنّى الظواهر المقاومة الصادرة عنهم خطاباً منعكساً عن الخطاب الدعائي، وهو ما يسهل إجهاض هذه الظواهر أو توظيفها، أو على الأقل إبقاءها تراوح مكانها من دون أن تتقدم.
لكن الخرافة الأكبر التي ساقتها الرأسمالية على العالم من دون أن يرف لها جفن، كانت ما تسميه «اقتصاد السوق الحر» (Free Market Economy). هذا المقال مخصص لتفكيك هذا المفهوم، وإثبات أنّ «اقتصاد السوق الحر» مخصّص فقط للدعاية التي تدفع باتجاه فتح العالم كاملاً أمام بلدان المراكز وشركاتها، وذلك على النقيض الكامل مما تمارسه دول المراكز نفسها. إضافة إلى أنّه سيثبت أن السوق لا يمكن أن يكون حراً في الأصل، وإنّما لا بد أنّه سيخضع لإملاءات حكومية في كل الأحوال...
منذ بدأ نشاط منظمات مرتبطة بالإمبريالية الأميركية في الخمسينيات والستينيات لمواجهة «الخطر الشيوعي» تحت ذريعة مواجهة «التوتاليتارية» (مثلاً مؤسسة فريدوم هاوس ـــ Freedom House)، والبروشورات والأدبيات الصادرة عنها تدعو للديموقراطية وحرية الرأي والتعبير، ومعها بالضرورة حرية السوق، وبحيث جُعلت حرية السوق شرطاً لا بد منه لتحقق الحريات الأخرى، لا استقامة لها بدونها.
هذه الأطروحة أصبحت مركزية في عالمنا المعاصر بعد سنين عديدة على ولادتها ونجاحها في اختراق أوروبا الشرقية والوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، كما أصبحت مركزية لجيل من الشباب «الليبرتاريين» (المصطلح الملطف عن «النيولبراليين» على ما يبدو!) في الأطراف ممن يعتقدون أنهم يدفعون بقيم الحرية إلى الأقصى (انظر مثلاً موقع مصباح الحرية misbahalhurriyya.org).
الأب الروحي لنظرية السوق الحر هو عالم الاقتصاد النمساوي فريدريش فون هايك. في مواجهة اقتصاد كينزي تتدخل فيه الحكومات للحفاظ على استقرار الأسواق. رفض فون هايك أيّ تدخل حكومي على الإطلاق في السوق، مشيراً إلى أنّ السوق قادر بميكانيزماته الذاتية على تصحيح نفسه بنفسه، وتحقيق التوازن والسعادة والرفاه والحرية لجميع الأفراد، وأنّ السوق الحر من أية قيود، هو الضمانة الأمثل لرأسمالية تحقق الازدهار للبشر، وهذه الأطروحة هي ذاتها الأطروحة المركزية لمن يُسَمّون اليوم «الليبراليين الجدد»، فيما يفضلون هم إطلاق عبارة «الليبراليين الكلاسيكيين» على أنفسهم توسلاً لتاريخ وأصالة لم تتحقق إلا حديثاً.
كان التطبيق الأول لمدرسة «السوق الحر» على مستوى العالم في الجنوب لا في الشمال، وتحديداً في تشيلي السبعينيات تحت قيادة الديكتاتور الدموي أوغستو بينوشيه الذي أطاح ـــ بدعم مباشر من الاستخبارات الأميركية ـــ الرئيس الاشتراكي المنتخب ديموقراطياً سالفادور اليندي.
من غير المستغرب أن تكون تجربة «السوق الحر» الأولى هي ضمن نظام يحكم بالحديد والنار، بل إن هذه التجربة الأولية تؤكد أن حرية السوق لا علاقة لها بالحرية أساساً، ناهيك عن تعلقها بحرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان!
لقد كان العقل المخطط لتجربة تشيلي هو أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان، أحد أهم دعاة السوق الحر، إضافة إلى تلامذته اللاتينيين الذين أُطلق عليهم اسم «أولاد شيكاغو» (Chicago Boys) نسبة إلى جامعة شيكاغو (معقل النظريات النيولبرالية) التي تتلمذوا فيها على يد فريدمان.
لقد مُنيت «معجزة» فريدمان في تشيلي بفشل ذريع رغم الدعاية الهائلة التي قالت غير ذلك. يورد العضو الأميركي الوحيد في مجموعة «أولاد شيكاغو» غريغ بالاست الإشارات التالية على هذا الفشل:
عام 1973، عندما استحوذ بينوشيه على السلطة، كان معدل البطالة هو 4.3%. أما في عام 1983، وبعد عقد من تطبيقات السوق الحر، وصلت البطالة إلى 22%. الأجور الحقيقية انخفضت بنسبة 40% خلال حكم الجنرالات. قبل استلام بينوشيه الحكم، كان 20% من التشيليين يعيشون تحت خط الفقر، هؤلاء تضاعفوا إلى 40% عندما غادر بينوشيه الحكم.
وليوقف العربة المتدهورة ـــ يقول بالاست ـــ لجأ بينوشيه إلى النماذج الاقتصادية الكينزية والاشتراكية (تأميم البنوك والصناعات وعلى رأسها صناعة استخراج النحاس، العصب الأساسي لاقتصاد تشيلي.
تجارب السوق الحر في دول المراكز كانت لاحقة على التجربة الفاشلة في تشيلي؛ فبصعود مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة أوائل ثمانينيات القرن الماضي، دخلت العديد من أطروحات فون هايك وفريدمان حيّز التنفيذ في المراكز. فتاتشر كانت السباقة إلى خصخصة (Privatization) المؤسسات والشركات المملوكة للقطاع العام في بريطانيا، وريغان كان الرائد في إزالة القيود القانونية التي تحدّد (تنظم) النشاط الرأسمالي (Deregulation).
لكن هل سار «تحرير الأسواق» في المراكز الرأسمالية إلى نهاية الطريق كما كان الأمر في تشيلي؟ وهل دفع ذلك الدولة إلى الانسحاب الكامل من السوق وتركه ساحة «مفتوحة» أو «حرة»؟
إثر الانهيار الكارثي للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، دُفعت دول الجنوب دفعاً لتبني مفهوم «السوق الحر» الحقيقي من خلال اشتراطات سياسية واقتصادية للاقتراض من مؤسسات تسمى تمويهاً «دولية»، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين (ما يسمى خطط «التصحيح» أو «إعادة الهيكلة»)، أو من خلال الابتزاز والرشى والعمولات وتوزيع الوكالات على ممثلي السلطة، وتَكوّن ما يسميه جيمس بتراس «الطبقة الرأسمالية المتعدية للحدود الوطنية» (Transnational Capitalist Class) ـ طبقة كمبرادورية مرتبطة عضوياً برأس المال في المراكز، أو من خلال التدخل السياسي والغزو العسكري المباشر.
أسواق الجنوب «الحرة» (كما يريدها الشمال الرأسمالي) يجب أن تكون أسواقاً مفتوحة بالكامل بلا ضوابط قانونية لحمايتها، وبدون أي تدخل من الدولة لضبطها أو التحكم بها، بلا حواجز جمركية، بلا معاملة تفضيلية للسلع الوطنية، بلا قيود على الاستثمار القادم من المراكز، بلا قيود على حرية حركة رأس المال الداخل والخارج، ومن دون أي دعم حكومي لأي قطاع أو سلعة أو خدمة، وبشرط ألا تكون الدولة نفسها لاعباً رأسمالياً، أي لا تملك أية قطاعات أو شركات أو مؤسسات. أي ببساطة، اقتصاد سوق حر حقيقي. فهل يطبّق الشمال المعادلة التي يروّجها في دول الجنوب؟
1ـــ خلال الأسبوعين الماضيين، أقرت الحكومة الأميركية خطة بقيمة 700 مليار دولار لإنقاذ أسواقها المالية المنهارة، فيما ضخ البنك المركزي الياباني 800 مليار ين في أسواقه المالية، وأممت الحكومة البريطانية بنك «بنغلي آند برادفورد»، فيما أممت الحكومة الأيسلندية ثالث أكبر بنك في البلاد وضخت فيه 600 مليون يورو.
2ـــ ضغطت الإدارة الأميركية لمنع صفقة بيع إدارة ستة من موانئها لشركة إماراتية (وهي شركة موانئ دبي العالمية) عام 2006، وهو ما أدى إلى انسحاب الشركة الإماراتية من الصفقة في النهاية.
3ـــ في فرنسا، تدخلت الحكومة «بكل ثقلها» عام 2006 لتمنع شركة «انيل» الإيطالية من الاستحواذ على شركة «سويز» الفرنسية التي تعمل في مجال الكهرباء والماء، حيث أصدرت تعليمات باندماج «سويز» في شركة «جاز دو فرانس» الحكومية الفرنسية، وصرح رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك دومنيك دو فيلبان أن هذه الخطوة مهمة للغاية بسبب «الأهمية الاستراتيجية للطاقة بالنسبة لفرنسا». وقد وصفت إيطاليا هذه الخطوة بأنها ترقى إلى «عمل من أعمال الحرب».
4ـــ أمّا في إسبانيا، فقد عرقلت الحكومة عام 2006 عرضاً قدمته شركة «اي او ان» الألمانية لشراء شركة انديسا الإسبانية للكهرباء، ثم أعلنت أنها ستوسع السلطات التي تمنع الشركات الأجنبية من تملك أصول إسبانية للطاقة.
وقد حكمت محكمة العدل الأوروبية أخيراً بأن الحكومة الإسبانية قد تجاوزت القانون الأوروبي في هذه القضية، مما يثبت لجوء إسبانيا إلى الحماية غير القانونية.
5ـــ تدعم بلدان الشمال قطاع الزراعة بمليارات الدولارات سنوياً، فيما تضغط بكل قوتها في منظمة التجارة العالمية من أجل رفع حماية دول الجنوب عن الزراعة فيها!
6ـــ الولايات المتحدة هي أكبر بلد فيه ملكية حكومية في العالم. فبحسب غريغ بالاست في كتابه: «أفضل ديموقراطية تشتريها النقود»، تمتلك الحكومة الفدرالية ما يزيد عن 2.85 تريليون دولار من رأسمال الشركات الأميركية. فإذا أضفنا المؤسسات التي تمتلكها الدولة أو الحكومات المحلية مثل شبكات المياه، يصبح الإجمالي الحكومي المستثمر في الولايات المتحدة كممتلكات عامة يتجاوز بحجمه سوق الأسهم.
ويغفل العديد من منظري «حرية السوق» في الجنوب عن قصد، الأدوات الأساسية التالية التي تتبناها دول الشمال الرأسمالية كأدوات مركزية من أجل التدخل في الأسواق لمصلحتها، والتي تثبت أن المؤثر الأول في الأسواق والاقتصادات هي الدول الرأسمالية لا السوق:
أولاً: تحديد أسعار الفوائد من جانب البنوك المركزية، وهو تدخل حكومي بارز يؤثر بشدة على الاقتصاد.
ثانياً: عمليات سوق العملات (Money Market Operations)، أي تدخل البنوك المركزية في سوق العملات بواسطة شراء العملات المحلية أو بيعها، لكي يجري تعديل سعرها، مما يؤثر على حركة التجارة العالمية. إضافة إلى ذلك، ليس هناك أي سوق عملات مُعوّم أو حر بالكامل (Free Floated Market) بل إن جميع أسواق العملات هي أسواق تدخل كامل أو تدخل جزئي (Managed Floated Market).
ثالثاً: الضرائب، وتحددها عادة وزارات المالية، هي عملياً تدخل حكومي لسحب وموازنة الطلب والعرض على المال للتحكم في حالة الاقتصاد وتجنب السقوط في حالات من الركود أو التراجع أو التضخم. وتعتبر كل الضرائب بمثابة «حركات تصحيح» اقتصادية، كما أنها تتدخل في تحفيز الإنتاج أو تثبيطه في قطاعات معينة.
رابعاً: معاهدات التجارة البينية أو الإقليمية (مثل النافتا وغيرها)، هي تدخل لتشجيع التبادل التجاري بين مناطق معينة وتفضيل التبادل التجاري البيني بينها، أو تصمم لضمان النمو ضمن قطاعات خدمية أو صناعية محددة ضد دول أخرى تنتج تلك السلع أو تقدم تلك الخدمات بشكل أكثر كفاءة أو أرخص من المتوافر ضمن منطقة المعاهدة.
خامساً: المقاطعة والحصار الاقتصادي هما أداة تدخل حكومية كبرى في السوق، تُمنع بموجبها دول كاملة من إدخال بضاعتها ومنتجاتها (أو سلع محددة) إلى دولة أو دول أخرى.
سادساً: الدعم المباشر لقطاعات أو صناعات محلية لمنع المنافسة من الخارج أو لإغراق المنافسين في الخارج أو كليهما، مثل دعم القطاعات الزراعية في دول الشمال الرأسمالية التي تحدثنا عنها سابقاً.
ثامناً: التدخل في أسواق المال مثل ضمان أصول الشركات أو ديونها أو شراء هذه الديون لمصلحة الخزينة أو إقراض الشركات أو تبديل ديون الشركات بأذونات خزينة البنوك المركزية (علماً بأن أذونات خزينة البنوك المركزية هي بحد ذاتها تدخل من خلال الإيحاء للبنوك التجارية لشرائها أو بيعها).
تاسعاً: هيئات تنظيم أسواق رأس المال (مثلاً SEC في الولايات المتحدة) وهي تدخل حكومي مباشر لحماية صغار المستثمرين من عمليات التزوير والتلاعب وتعزيز الشفافية.
هكذا، وببساطة شديدة، نستطيع القول إن العمليات الاقتصادية كلها تقريباً تقوم على التدخل، وإن نموذج «السوق الحر» ليس نموذجاً قياسياً ولا كونياً، بل نموذج يروَّج فقط لفتح الأسواق والهيمنة، وخصوصاً في الأطراف.
* كاتب أردني