Strong>ياسين تملالي*في الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2008، حكمت محكمة قفصة (350 كم جنوبي غربي تونس) على 33 مواطناً، منهم العديد من المناضلين النقابيين، بالسجن لمدد تتراوح بين سنتين وعشر سنوات. وقد وجه إليهم المدعي العام تهمتي «التمرد المسلح» و«التواطؤ الإجرامي بهدف المساس بالأشخاص والممتلكات»، في إشارة إلى مشاركتهم في الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدها «حوض قفصة المنجمي» طوال السنة الجارية، والتي اتخذت في بعض الأحيان شكل مواجهات عنيفة مع قوات الشرطة والجيش.
وحكمت المحكمة ذاتها غيابياً بالسجن 12 سنة نافذة على الصحافي فاهم بوكدوس، مراسل قناة الحوار (مقره في إيطاليا)، عقاباً له على تغطيته هذه الاحتجاجات، متهمة إياه بـ«الانخراط في عصابة» و«توزيع نشرات وبيعها وعرضها، من شأنها تعكير صفو النظام العام».
ويذكر أن شرارة «أحداث حوض قفصة» اندلعت في ربيع 2008 في بلدة الرديف الصغيرة، عقب الإعلان عن نتائج مسابقة توظيف في شركة الفوسفات التونسية التي تستغل مناجم المنطقة. واحتجاجاً على هذه النتائج، تجمع الشبان الغاضبون وعائلاتهم في المقر الإقليمي لاتحاد الشغل ونددوا بما اعتبروه محسوبية وتلاعباً بحقهم في العمل. وسرعان ما تحوّلت تحركاتهم إلى تحرك شامل شاركت فيه كل شرائح سكان قفصة، واتسعت مطالبه لتشمل القضاء على الفساد وتحكم الدولة في الأسعار.
وتعد مناجم الفوسفات، منذ أن بدأ استغلالها في مطلع القرن الماضي، أهم محرّك للنشاط الاقتصادي في قفصة. وهي إن جعلت من تونس أحد أهم منتجي هذا المعدن في العالم، فإنها لم تفد كثيراً سكان هذه المحافظة، إذ إن نسبة البطالة في أوساطهم أعلى من نسبتها الوطنية، علاوة على أنهم يفتقرون إلى الكثير من البنى التحتية الأساسية، كما أوضح ذلك قادة حركتهم الاحتجاجية. وقد زاد ظروف معيشتهم صعوبةً تطبيق الحكومة في السنوات الأخيرة خطة «إصلاحية» لشركة الفوسفات، ما أدى إلى خفض عدد عمالها بأكثر من النصف وقلل من إمكان توسع نشاطها.
وبصورة عامة يمكن اعتبار إقليم الشمال الغربي الذي يقع فيه حوض قفصة المنجمي أحد أفقر الأقاليم التونسية، لبعده عن العاصمة، وعدم إدراجه ضمن قائمة المناطق السياحية التي توليها الحكومة أولوية مخططاتها التنموية، بذريعة أن السياحة هي عصب الاقتصاد التونسي.
وحاولت السلطات التونسية تفادي توسع الاحتجاجات حال وقوعها، فأقال الرئيس زين العابدين بن علي، في آذار (مارس) 2008، محافظ ولاية قفصة، ما كان اعترافاً ضمنياً بشرعية مطالب المتظاهرين. ولم تنجح محاولات التهدئة هذه إلا مؤقتاً في ثني الشبان عن مواصلة المطالبة بحقوقهم في الشغل، ففي 7 أيار (مايو)، احتلوا منشأة تزود شركة الفوسفات بالكهرباء، فتدخلت الشرطة بصورة همجية لفك الاعتصام، مما نجم عنه إصابة بعض المعتصمين بصدمات كهربائية خطيرة، أودت بحياة أحدهم (هشام بن جدو العلايمي، 26 سنة). وبعد هذه المأساة بيومين، أصيب مواطن آخر هو الطاهر السعيدي، 44 سنة، إصابة خطرة جراء تدخل آخر للشرطة في أم العرايس، إحدى معتمديات قفصة الخمس، وتوفي بعدها بأيام.
وبالرغم من سعي السلطة إلى عزل قفصة عن باقي البلاد، وعن العالم، لمنع تأثير الاضطرابات على مداخيل تونس السياحية، فقد فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، إذ استطاعت العديد من المنظمات المدنية الأجنبية حضور محاكمات 11 كانون الأول (ديسمبر)، ومنها الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، والشبكة الأورو ــــ متوسطية لحقوق الإنسان، والفدرالية النقابية الموحّدة (أكبر نقابات التوظيف العمومي الفرنسية)، وقد أدانت كل هذه المنظمات المحاكمات وملابساتها غير القانونية.
وزاد من حرج السلطات تزامن المحاكمات مع التحقيق القضائي في إعطاء نائب قنصل تونس في ستراسبورغ (فرنسا)، خالد بن سعيد، أوامر بتعذيب سيدة تونسية عندما كان يعمل مفتش شرطة في محافظة جندوبة (الجنوب الغربي). وقد انتهت التحقيقات بجلسة قضت بالسجن غيابياً مدة 8 سنوات على هذا المتهم.
وفي الوقت الذي ما زالت تقدم فيه تونس على أنها مثال يحتذى به في العالم العربي والأفريقي، جاءت أحداث قفصة لتكشف عورة أخرى من عورات نظامها، ألا وهي انقسام البلاد إلى قسمين: تونس البهرج السياحي المخصصة لـ7 ملايين زائر يسافرون إليها سنوياً، وتونس الداخل المنسية التي لا يطرق بابها الأجانب فتعرض عنها السلطات.
وقد أعطت هذه الأحداث نفساً جديداً للغضب الشعبي على سياسات الحكومة، بعدما وصلت المعارضة التقليدية التي تقودها الأحزاب الديموقراطية ومنظمات المجتمع المدني إلى شبه طريق مسدود بسبب نجاح السلطات في الانفراد بها وتطويقها.
* صحافي جزائري