سلامة كيلة *كانت التناقضات واضحة في سنين سابقة، لكنّ تطوّر دور الحركة الأصولية الإسلامية أوجد اختلالاً أظهر سوء فهم لمعنى التناقضات. حيث بتنا نُحشر بين اختيار هذه الحركات (وخصوصاً إذا كانت في المقاومة أو ضد النظم) أو اختيار «نقيضها» (النظم أو المشروع الإمبريالي الصهيوني)، رغم أن اليسار كان حتماً ضد النظم، وكان في مجمله ضد المشروع الإمبريالي الصهيوني.
هل المسألة هي مسألة اختيار؟ وعلى أي أسس يمكن أن نحدد الموقف من كل منها، وبالتالي أن نضعها في سياق التناقضات؟
هنا نلمس مشكلة منهجية تتكرر في عموم التصورات، لا في هذه المسألة فقط، وتتمثّل في التحديد: إما، أو. وهذه الـ إما، أو، هي من تأسيس منطق صوريّ فاقع، حيث إن القوى التي توضع في هذه الخانة أو تلك، هي القوى البارزة والمتصارعة انطلاقاً من أننا في «الحياد»، وبالتالي لسنا ضد طرف. سجال كان قائماً قبل تمدّد الحركة الأصولية، وتحوّلها إلى قوة صراع، سواء ضد النظم أو ضد الدولة الصهيونية، أو ضد المشروع الأميركي. ولقد كنا ضدها أساساً، وبالتالي قبل تحوّل الحركة الأصولية. هذا التحوّل الذي يحتاج إلى بحث.
التحديد هنا شكلي، لأنه ينطلق مما هو مكشوف. ولهذا يوصل إلى متاهات، حيث يخضع تحديد أساسية الصراع لمواقف «ذاتية»، «قيمية»، لا لرؤية واضحة لطبيعة الصراع ولمجمل التناقضات فيه، وبالتالي لدور كل طرف في هذا الصراع. وموقفنا من كل منها، ثم أولوية التناقضات.
ننتقل من المنطق الصوري القائم على النظرة الشكلية إلى فهم أعمق للتناقضات، لا ينطلق من رؤية ذاتية تغلّب مواجهة الاستبداد من أجل الديموقراطية، أو تغلّب الحداثة ضد الموروث الأصولي، أو ترى الظلم والاضطهاد الناتج من وجود الدولة الصهيونية، أو تقبل غض النظر عن ذلك خشية من أصولية زاحفة.
هذه نظرات ذاتية يتحدد على ضوئها الموقف إما ضد النظم الاستبدادية (وبالتالي يجري الاصطفاف مع الحركة الأصولية التي هي في تناقض راهن مع هذه النظم)، أو من أجل الحداثة والتحرر، ضد الحركة الأصولية لأنها تزحف حاملة كل عبء القرون الوسطى واستبداديتها. وبالتالي تصبح النظم هي حاضن هذه الحداثة وهذا التحرر، أو الأقل تخلفاً واستبدادية مما هو قادم.
وانطلاقاً من النظرات الذاتية ذاتها يجري تحديد الموقف من الاحتلال الأميركي والوجود الصهيوني، ومن القوى التي تقاومهما. في هذا انتقاء ذاتي للأولوية التي تحددها الذات لذاتها. وبالتالي يكون التناقض الأساسي مع النظم، والتحالف مع كل من هو في تناقض معها، بغض النظر عن أسباب هذا التناقض. أو يكون التناقض مع الحركة الأصولية والتحالف مع النظم لأنها تخشى هذه الحركة، وتدافع عن مواقعها إزاءها. والشيء ذاته في ما يتعلق بالاحتلال والموقف من المقاومة. وهنا تسقط مفاهيم وقيم لمصلحة أخرى، ويبرز عدم الانسجام الذاتي واضحاً لدى كل الأطراف. وتكون الانتقائية هي الأساس المكمل للشكلية التي طبعت كل المنطق الذي يحكم النظر إلى هذه المسائل.
فالتناقضات لا تحدد انطلاقاً من ميل ذاتي بل مما هي في الواقع. واليسار ينطلق من التحديد الطبقي للتناقضات لا من أي شيء آخر، من دون إهماله. وبالتالي فإن التناقض الرئيسي هو مع الرأسماليات التابعة التي تحكم، لا أي شيء آخر. النهب والاستغلال الذي تمارسه هو أساس نشوء التناقضات. وطابعها السلطوي والاستبدادي يهدف إلى خدمة ذلك. فيكون من الطبيعي أن تلمس الطبقات الأخرى أنها في تناقض معها، وأن يخوض بعض قطاعاتها صراعاً ضدها. وهذا الأساس الملموس هو المحرك لموقفها من هذه النظم. وبالتالي يمكنها أن تدعم أو تنخرط مع القوى التي تتناقض لسبب أو لآخر مع هذه الطبقات / النظم. وترفض كل من يدافع عنها، أو لا يخوض صراع ضدها.
لقد اكتسبت الحركة الأصولية الدعم نتيجة هذا التناقض الذي بدا مع النظم، لا لأنها تمثل الدين، أو لأن الطبقات الشعبية تغلّب الأيديولوجيا على الواقع المعيش. في المقابل، لم تندفع هذه الطبقات خلف اليسار لأنه لم يقرر خوض هذا الصراع، واكتفى بالنقد، أو حتى مال نحو النظم خشية من الحركة الأصولية.
وما من شك في أن اليسار يتناقض مع الحركة الأصولية من حيث كونها تطرح قيماً عتيقة، وسلطة أشد استبدادية، ومنظومة أخلاقية تجاوزها الزمن. وهذا ما يبدو أن قطاعات من اليسار تتحسّس منه، أو حتى تخافه. لكن الحركة الأصولية كذلك، وأساساً، تطرح مشروعاً ليبرالياً غاية في «التحرر»، لأنها تمثل فئة طبقية تجارية، وتنشط في مجال المال كذلك لا في أيّ من القطاعات الإنتاجية. وبالتالي فهي في صراع تنافسي مع الطبقة الرأسمالية في السلطة، لا شك في ذلك، ويمكن أن تستغل التمردات الشعبية من أجل تقوية ذاتها في هذا الصراع. وهي تقوى لهذا السبب بالذات، أي لـ«تناقضها» مع الطبقات / النظم، حيث تجد بعض الفئات الاجتماعية متنفّساً لها هنا. بمعنى أن قوتها لا تنبع من ذاتها، ومن أصوليتها، بل من هذا «التناقض» الذي يحكم علاقتها بالنظم. إن «تعاطف» «الشارع» معها نابع من ملامستها للتناقض الرئيسي، رغم أنها تهدف إلى تحقيق مشروع آخر، يمكن أن يتقاطع مع النظم في بعض الأحيان.
وما من شك في تناقض اليسار مع هذه الحركة لمجمل تكوينها وسياساتها، لكنه يلتقي معها في الموقف النقدي من النظم، وفي بعض الشعارات والأهداف الآنية. وربما لا يكفي ذلك لتحقيق تحالف، وهذا صحيح. أما أن تتحوّل إلى تناقض رئيسي لما يمكن أن تمثّله فيما إذا وصلت إلى السلطة، فيضيع التناقض الأساس، وأكثر من ذلك يترك «الشارع» مشاعاً لها، لأنها ستبدو المعبّر الوحيد عن «هموم» الناس.
المشكلة أن الأساس الذي ينطلق منه اليسار في تحديد موقفه منها يعبّر عن «ذاتية» فئات وسطى أكثر مما يعبّر عن يسار حقيقي. فليست الخشية من الظلامية هي التي تحدد «العدو»، رغم أخطارها. وليس حب الديموقراطية والحداثة هو الذي يحدده. وكذلك ليس رفض الاستبداد هو الذي يحدد هذا «العدو»، برغم خطر الاستبداد.
إن الانطلاق من التناقضات الحقيقية، ومن أولوياتها، هو الذي يجعل هزيمة «راكبي مزاج الجماهير» ممكنة. لأن الأمر يتعلق بتحسّس الطبقات الشعبية لتناقضها لا لتحسس «مثقف» أو «سياسي» ينطلق من نزعات ذاتية أكثر مما ينطلق من الواقع. لهذا يجب أن يبقى التناقض الرئيسي محدَّداً في النظم ذاتها، مع كل موقفنا من الحركات الأصولية التي يجب أن نشدد النضال الأيديولوجي في مواجهتها.
* كاتب عربي مقيم في سوريا