إنها الذكرى الثلاثون: نعدّها بالساعات والثواني والغضب الدفين. تمرّ هكذا في الحياة السياسيّة العربيّة دون صخب ولا مَن يلاحظ، أو يغضب. تريد إسرائيل وحلفاؤها من العرب أن يجعلوا من الذكرى مناسبة احتفاليّة للتطبيل والتزمير ولرفع شأن السادات في الوجدان العربي الشعبي
أسعد أبو خليل*
يتعامل النظام المصري مع ذكرى توقيع اتفاق كامب ديفيد بخجل شديد: يذكر المناسبة من باب رفع العتب، ومن باب دفع الفواتير تجاه أميركا وإسرائيل، لكنه أرسل سفيراً للاحتفال في إسرائيل وللتنديد بإيران من هناك. لماذا يخجل حسني مبارك؟ الرئيس المُحنّط بات مُصمّماً الآن على خدمة مطلقة للمصالح الإسرائيليّة من أجل الحصول على تأييد الكونغرس الأميركي لخلافة جمال مبارك له. وكل أبناء الزعماء نجباء، من دون استثناء. ومعلّقو صحف آل سعود يقرّعون الرأي العام العربي لأنه لم يقع في حب أنور السادات، ولم ير في اتفاق «كامب ديفيد» ما يرفع شأن العرب.
حازم صاغيّة (الذي هكذا توقف فجأة عن انتقاد النظام السوري بعدما كان يفعل ذلك أسبوعيّاً، لكن إياك أن تظن أن الأمر مرتبط بالمصالحة بين آل سعود وآل الأسد لأن إعلام أمراء آل سعود إعلام حرّ) قال إن أنور السادات وحده عرف كيف يخرج من «الوحل». والوحل هو هنا إشارة الى مقاومة احتلال إسرائيل ورفض المشيئة الأميركيّة. وقال صاحبكم إن وصفة السادات ناجعة لمنع الانقسام وبناء المجتمعات والدول. هل كان يقصد أن إثارة السادات للعداء الطائفي ضد الأقباط وافتعال الفتنة كانا من أجل بناء المجتمعات؟ وهل كان إطلاق الأصوليّة المُتعصّبة لاستخدامها ضد الناصريّة واليسار، من أجل بناء الدولة؟ وهل كان زج الجميع في السجون من أجل إحقاق الحق، لا غير؟ أم أن هذا يدخل في باب كلام من نوع أن دعوة الملك السعودي لشمعون بيريز في عشاء حميم في نيويورك هي أهم مبادرة في تاريخ البشريّة؟ يريد منا إعلام آل سعود أن نعترف بحكمة السادات الذي سهّلت مبادرته كل الحروب والاجتياحات التي شنتها إسرائيل على الدول العربية وشعوبها منذ اتفاق كامب ديفيد حتى تاريخه: وقد قصفت إسرائيل منذ الاتفاق (أو اجتاحت) فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والسودان وتونس. بالفعل، لنعط الرجل حقه: لماذا لا نسجل على شاهدة قبره أسماء كل الضحايا العرب من عدوان إسرائيل منذ عام 1977؟
من منا، ممن عاشر تلك الحقبة المدلهمّة، لا يتذكّرها بتفاصيلها؟ من منا لم يتسمّر أمام الشاشة للتأكد من حصول الفعلة الشنيعة؟ من منا لم يتمنّ (وهناك في حركة فتح من توقّع) فتح طائرة السادات لتنطلق منها قوات «صاعقة» مصريّة تمعن قتلاً في قيادة الكيان الغاصب؟ لكن فُتح باب الطائرة ليهبط منها أنور السادات ـــــ أقوى عون للصهيونيّة في تاريخها ـــــ ذليلاً ومُحيّياً. اصطف قادة الكيان ليرحبّوا بضيفهم العزيز. الوجوه التي نذكرها في رسوم الستينيات الكاريكاتوريّة للقادة الذين (واللواتي حتى لا ننسى غولدا مائير) مرّغوا أنوفنا بالتراب في حرب 1967 كانوا هناك ليستقبلوا أنور السادات بالترحاب.
وُضع العديد من الكتب والأطروحات عن كامب دايفيد، وخصوصاً في أميركا. نعلم اليوم ما يأتي: إن الفريق الأميركي في المفاوضات الصعبة كان أصلب في المفاوضات بالنيابة عن مصر من حاكم مصر نفسه. حتى مستشاروه شكّوا في مس عقلي أصابه. أسامة الباز حكم باكراً أن «الريّس اتجنن». لكن المؤامرة تبلورت في حرب 1973. باعونا نصراً زائفاً من أجل التحضير لاستسلام مصري مُطنطِن. كانت حرباً من أجل حروب تليها، لا من أجل السلام.
الروايات العربيّة عن «فكرة» المبادرة كاذبة أو غير دقيقة في معظمها. يطلعون علينا بأخبار عن مفاوضات في المغرب وعن روحانيات حسن التهامي المشعوذ وعن دور للطاغية تشاوشسكو، وهو كان صديقاً لأميركا وللسادات وحدهما لأن السادات كان صديقاً لإسرائيل. لكن جيمي كارتر فصل في الأمر قبل أسابيع فقط: الفكرة والتنفيذ والإخراج أميركي. من البداية إلى النهاية. السادات كان يحاول جذب أميركا منذ مطلع حكمه، لكنهم لم يروا فيه إلا مهرّجاً كما يعترف زبغنيو بريجنسكي في مذكراته. غير أن التهريج لا يتناقض مع الولاء المطلق ومع الاستسلام. أرسل إشارات للفت النظر: طردٌ مُلعلِع للخبراء السوفيات. لم يكف ذلك. المطلوب أكثر بكثير. كان يكرّر التهديد بالحسم وبالقرار وبالفصل، لكن القيادة الأميركيّة تجاهلت المهرّج. في العالم العربي كان الشعب لا يزال في غيبوبة غير مصدّق أن الذي طبع التاريخ العربي المعاصر قد غاب. والسادات لم يستفزّ المشاعر الناصريّة في البداية. وهو يحسن التمثيل، مثله مثل فقيهه الشعراوي. السادات يغيب عن الوعي في المأتم وفي الأربعين ويزايد على جمهور عبد الناصر في الولاء. لكنه بدأ بذكاء ومهارة (ساعده هيكل في ذلك) في القضاء على الفريق القوي الذي أحاط بعبد الناصر. وكان السادات بارعاً في سبك الشعارات والمصطلحات. سماهم «مراكز القوى» وأصبح خطرهم أدهى من خطر الاحتلال الجاثم على أرض سيناء وعلى أراضٍ عربيّة أخرى. مؤامرات وانقلابات ومخططات يفشلها الواحد تلو الآخر كما كان يقول لنا. ثم أتت حرب 1973.
لا شك بأن حرب 1973 كانت من أكثر الحروب ضرراً في الصراع التاريخي والاستراتيجي مع إسرائيل. هزيمة 1967 كانت بادية للعيان ولم يكن من الممكن إخفاؤها، حتى بخدعة «النكسة»، وكأن حرب 1956 لم تكن هي نكسة أيضاً، وخصوصاً أن المشير كفل النصر بـ«رقبته». هزيمة 1967 شحذت الهمم على الأقل وأطلقت العنان لحركات فدائيّة في طول العالم العربي وعرضه. أخيرا تيقّن الرأي العام العربي أن الأنظمة العربيّة، الناصريّة والبعثيّة على حدّ سواء، حتى لا نتكلم عن الأنظمة الموالية للاستعمار في الخليج وفي الأردن وفي دول أخرى، ليست قادرة وليست مستعدّة لخوض معركة تحرير ضد إسرائيل. كان واضحاً أن الأنظمة العربيّة لم تعد العدّة لتحرير فلسطين رغم وعود معطاة وأشعار فضفاضة. أما حرب 1973 فكانت الحرب التي كان مُعدّاً لها أن تكون آخر الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة من جانب الأنظمة. قيل الكثير وكُتب الكثير عن الخدعة المصريّة وعن تكاذب ساداتي في الحرب. هذا صحيح. لكن تقصير النظام السوري لا ينقص. لم يكن النظامان في وارد تحرير الأراضي العربيّة المحتلّة.
والدعاية الصهيونيّة تلاقت مع دعاية الأنظمة العربيّة لتسخر من كفاءة المقاتل في الجيوش العربيّة وقدرته. حسم كين بولاك الأمر في كتابه عن تاريخ القتال العربي. والكتاب الضخم يتوصّل إلى استنتاجات بالغة الأهميّة، علماً بأنه لم يُترجم إلى العربية بعد. بولاك خالف الرأي الشائع عن غباوة المقاتل العربي وعدم قدرته. درس كل مواقع القتال العربي في المواجهة مع إسرائيل ومع أميركا (بالنسبة للجيش العراقي عام 1991) ووجد أن الانطباع السائد (عربيّاً وغربيّاً) عن أداء الجندي العربي كان خاطئاً تماماً وأن المقاتل يحسن القتال عندما تُتاح له الفرصة. لكن بولاك عزا ضعف الأداء إلى العامل التكتيكي. عنصر تولّي زمام المبادرة والقيادة أمر مفروغ منه في القوات المسلحة الأميركيّة والإسرائيليّة، لكن الجيوش العربيّة تربّت، وخصوصاً في حقبة الستينيات وما بعد، على عدم المبادرة أو عدم اتخاذ القرار قبل وصول أمر من القيادة المركزيّة في العاصمة، وبتوقيع من الزعيم أو من صهره. وحكم هذا العامل قوات الثورة الفلسطينيّة في لبنان حتى عام 1982. كان ياسر عرفات المُغرم بإصدار الأوامر مهما كانت صغيرة ـــــ أو بالأخص إذا كانت صغيرة ـــــ يصرّ على توقيع كل التعميمات حتى في مسألة تجهيز مكتب لقوات العاصفة في جنوب لبنان. وهذا الإصرار على إصدار القرارات وعدم تمكين القيادات في أرض المعركة أو في النواحي من أخذ زمام المبادرة ينبع من إرادة تسلّطيّة. كيف يمكن القيادات السياسيّة المركزيّة العربية أن تركن إلى رأي الجنود والضباط على الحدود وهم في خشية من اشتعال معركة غير مرغوبة مع العدو (لم ننس الشعار البعثي السوري بشأن الإصرار على «اختيار زمان المعركة ومكانها»، لكن الشعار أبدل في قمة دمشق الأخيرة بشعار انتظار «عودة» الأراضي المحتلة في حافلة قطار على ما يبدو). كما أن الجيوش العربيّة تكوّنت لا لتحرير فلسطين أو الأراضي العربيّة المحتلّة الأخرى بل من أجل الحفاظ على الأنظمة والدفاع عن العاصمة في وجه «المتآمرين» الطامعين بالسلطة.
إن نخبة الوحدات المقاتلة في الجيوش العربيّة كانت ولا تزال راصدة لا على الحدود مع إسرائيل بل في العاصمة للدفاع عن الزعيم الأوحد وحرمه المصون والابن النجيب حتى لو كان رضيعاً. أما الوحدات الرابضة على الحدود فكانت من اختصاص أضعف الفرق وأقلها تجهيزاً. كانت القيادة السوريّة أو العراقيّة مثلاً أكثر تحفّزاً ضد الأجنحة المناهضة في حزب البعث من تحفّزها ضد العدو الإسرائيلي. وكتاب مايكل أورين عن حرب 1967 تحدّث عن تقدّم سوري هائل وسريع على جبهة الجولان في بداية المعركة إلى درجة أن القوات الإسرائيليّة كانت على وشك التراجع قبل أن يأتي أمر بالانسحاب من دمشق لأسباب لا تزال مجهولة. أما القوات المصرية المُستنزَفة في حرب اليمن التي رمى فيها الاستعمار الغربي بثقله فكانت بإمرة ملك الكيف. لو أن محكمة المهداوي، أو محكمة شبيهة بها، أصدرت حكماً في أمر الرجل... لكن المشكلة بنيويّة طبعاً، ولا تنحصر بشخص المشير مهما كان كاريكاتوريّاً ومناسباً، للعدو لا لنا طبعاً.
كامب ديفيد شكلت تتويجاً لخطة أميركيّة ـــــ إسرائيليّة محكمة بدأت بعدما توضحت طبيعة قيادة أنور السادات، النازي السابق. الخطة كانت بسيطة: أن عزل مصر عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي يبدد احتمال اشتعال الجبهة مرّة أخرى ويعطي إسرائيل حريّة كبيرة للحركة، وخصوصاً أن الحكم الهاشمي كان مطيعاً للصهيونيّة منذ إنشائه وزاد في طاعته للصهيونيّة بعد مجازر عمان عندما تدخلت إسرائيل وأميركا لإنقاذ صبي الاستعمار. الخطة كانت بسيطة: عزل مصر يؤدّي إلى إفشال إمكان نشوب حرب عربيّة شاملة ضد الكيان الغاصب. نجحت الخطة في ذلك لكن المخطّطين لم يحسبوا حساب ما كانت المقاومة الفلسطينيّة تودّ فعله منذ الستينيات: الاعتماد على المقاومات الشعبيّة لشن حرب على إسرائيل من دون تدخّل الجيوش العربية، غير أن ياسر عرفات فوّت عليها تلك الفرصة. استخدم المقاومة من أجل التفاوض الدبلوماسي، فكان أن فشل في المقاومة وفي الدبلوماسيّة كما علّق مرة زبغنيو بريجنسكي.
نعرف الكثير عن خفايا عصر كامب ديفيد اليوم. نعرف أن الأنظمة العربيّة كانت كلّها كاذبة في ادّعاءاتها ومزاعمها في الصمود والتصدّي. الملك الحسين ـــــ ذاك الذي أدمن الإخلاص لأميركا ولمصالح إسرائيل ـــــ لم يقطع علاقته بالسادات، والملك فهد كان مشجّعاً بالسرّ، وهذا ما عكسته مجلّة «الحوادث» الأمينة لوجهة نظر الملك فهد منذ موت جمال عبد الناصر. ونظام صدّام حسين أوكل لنزار حمدون مهمّة التملّق الرسمي للصهونيّة في واشنطن. والأنظمة العربيّة توقّفت عن التنديد بأنور السادات وباتفاق كامب ديفيد (بمَن فيهم منظمة التحرير وأنظمة «الممانعة» التي كانت تنتظر لتحديد زمان المعركة ومكانها وباتت اليوم تترقّب تحديد الزمان والمكان لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل). لكن أنظمة الاستسلام العربي تعاني مشكلة مزمنة: إذ هي ترمز في سياساتها إلى (لا) منطق الإذعان للشروط الأميركيّة والإسرائليّة، بينما لا يزال الرأي العام العربي في شقّه الإسلامي أو القومي أو حتى اليساري ضد أي تطبيع أو سلام مع إسرائيل. ولاءات الخرطوم لم ينتقها النظام العربي الرسمي عام 1967، فرضها عليه الرأي العام العربي الذي رفض أن تتحوّل الهزيمة الشنيعة إلى فرصة للاستسلام. وهذه المعضلة تصيب النخبة الليبراليّة العربيّة المتحالفة مع قهّار آل سعود بالإحباط: وهذا ما يُفسّر هذا الاحتقار الدفين الذي يكنّه دعاة التنوير الوهّابي للعامّة لأنهم لا يشاطرون أنظمة الاعتدال خنوعها.
كانت الأنظمة العربيّة تهدّد بالحرب: أما اليوم فالملك السعودي يهدّد بالتوقف عن استجداء إسرائيل من أجل التطبيع الكامل. وخيارات الأنظمة صعبة لأنها مستعجلة للتخلّص من القضيّة الفلسطينيّة، مستفيدة من وفاة عرفات وحلول أداة أميركيّة ـــــ إسرائيليّة في سدّة رئاسة السلطة المنتهية الصلاحية، لكنها لم تنجح ـــــ مثلها مثل بوش الذي تفتقت عقيدته عن إطلاق باهظ الأثمان لحملات دعائية صاخبة نحو الرأي العام العربي والإسلامي ـــــ في تطويع شعوبها وفي إقناع الرأي العام العربي بصوابيّة أفكار علي سالم ومثال الألوسي في التطبيع مع إسرائيل. كما أن الإعلام السعودي وأبواقه في حرج لأنهم لا يستطيعون الذهاب بعيداً في البكاء على أنور السادات لأنهم وقفوا رسمياً ضده وندّدوا في إعلامهم آنذاك باتفاق كامب ديفيد، فيما كان الملك فهد يشجّع جيمي كارتر على المضي قدماً في رعايته للصلح الاستسلامي مع إسرائيل.
وخطورة اتفاق كامب ديفيد ليست في الاتفاق فقط، بل في النمط والنهج في التعامل الذي لخّصه أنور السادات بجملته الشهيرة عن ضرورة وضع كل الأوراق في سلّة أميركا. والنمط من السياسة أو التمنّي رفع من مرتبة القوة الأميركيّة العظمى حتى في حقبة الحرب الباردة، وأنور السادات والحكم السعودي سلّما بوحدانيّة القوة الأميركيّة قبل سقوط الامبراطوريّة الشيوعيّة. أي أن الدول العربيّة ساهمت عن قصد في إبعاد خيار الاتحاد السوفياتي كعنصر ضغط في مفاوضاتهم الدوليّة قبل انتهاء الحرب الباردة، مع أن الموقف السوفياتي لم يحد يوماً عن خط الاعتراف بإسرائيل في حدود 1967. كما أن اتفاق كامب ديفيد، وقبله مبادرة السادات (التي حظيت بدعم لبناني من صائب سلام وسليم اللوزي حتى لا نتحدّث عن حلفاء إسرائيل آنذاك من جورج عدوان إلى صولانج الجميل ـــــ طاهية أرييل شارون الخاصّة أثناء زياراته للبنان ـــــ وسمير جعجع وسائر شلة أنطوان لحد) أعطت منظمة التحرير الفلسطينيّة الذريعة التي كان عرفات ينتظرها للتفريط بحقوق شعب فلسطين ولتقديم الكفاح المسلّح كهديّة مقابل سلطة وهميّة في بعض أراضي الضفة والقطاع.
لكن مخطّط كامب ديفيد ساد على المستوى الرسمي وباعد بين ذاك المستوى والمستوى الشعبي. غير أن هناك ما لا يساعد المستوى الشعبي في التأثير والضغط. الأنظمة العربيّة استطاعت منذ أوائل السبعينيات إبطال فعالية أو قدرة الانقلابات التي شكلت ـــــ حتى في إخفاقها ـــــ عنصر ضغط على سلوك الأنظمة العربيّة، وخصوصاً في ما يتعلّق بقضيّة فلسطين. فقد الرأي العام العربي القدرة على التأثير عبر التهديد أو التخويف بالانقلابات العسكريّة الفجائيّة التي كانت تؤرق الحكّام وأصبحت اليوم من حكايا الماضي إلا في موريتانيا. وموريتانيا هي المثال الساطع، لأنها اليوم أكثر ديموقراطيّة من بقية الأنظمة العربيّة، واستطاع الرأي العام أن يفشل المخطّط الأميركي ـــــ الإسرائيلي لفرض التطبيع. ويستطيع الرأي العام عبر الإضراب والتظاهرات أن يفرض الكثير على الأنظمة المتسلّطة، لكن التثاؤب والإلهاء والإحباط واليأس والتعجيز تسرّبت إلى الثقافة السياسيّة العربيّة وفرضت مناخاً قاتماً يتيح للأنظمة حريّة تحرّك أكبر. والفضائيّات احتلّت مساحة كبيرة من العقل ـــــ أو من خيال العقل ـــــ وهي تتيح لفئة صغيرة (عائلة حاكمة أو عائلتيْن) أن تتحكّم في أهوائنا وفي مساحة فراغنا والقدرة على إشغالنا بعيداً عن تحرير فلسطين.
اتفاق كامب ديفيد مرتبط بالتزام أميركي مالي وعسكري حيال النظام في مصر: وهو يتخطّى حكم حسني مبارك ليتعدّاه إلى أي حكم يليه ـــــ حتى لو كان إخوانيّاً ـــــ على أن يتعهّد احترام اتفاق كامب ديفيد كي يتسنّى لإسرائيل قتل العرب بالمئات على جبهات قتال أخرى ولو كانت قافلة في السودان. على أن الالتزامات الأميركيّة الماليّة قد تتأثّر في عصر عصر النفقات وإن كان الكونغرس الأميركي، بناءً على توجهّات اللوبي الإسرائيلي، يعتبر تحييد مصر هو من أولويّات السياسية الخارجيّة نحو الشرق الأوسط. تحييد مصر وفّر ملايين أخرى كان يمكن أميركا أن تنفقها في تسليح مضاعف لإسرائيل. لكن هناك من المتغيّرات ما قد يؤثر على وضع الاتفاق: فخلافة سعد الحريري لرفيق الحريري تحتوي على إشارات إيجابيّة ساطعة من حيث غياب الأهلية والذكاء لدى (بعض على الأقل) الخلفاء غير النجباء في العالم العربي. وإذا كان حسني مبارك يستخدم ويجترّ (زيف) نصر أكتوبر للتنعّم بمشروعيّة سياسيّة لا يستحقّها، فمن أين يأتي جمال مبارك بالمصداقيّة والمشروعيّة؟ من «سيتي بنك»؟ أم أن عمر سليمان سيتسنجد بعادل إمام ليسبغ شرعيّة (وكباباً) على الابن المُبارك أميركيّاً؟
يطوي مسار الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي محطات ومفاصل مختلفة. بعضها يتضمّن نكسات وهزائم ومآسي ومجازر، لكن الصهيونيّة لم تقض على المقاومة الفلسطينيّة وعلى الرفض العربي الشعبي لوجود الدولة اليهوديّة بين ظهرانينا. كامب ديفيد هو واحدة من المحطات المشؤومة التي تستحق التأشير الحزين والغاضب مثلها مثل وعد بلفور. لكن مقابل كامب ديفيد هناك مقاومات ضد الأنظمة العربيّة وضد الاحتلال الإسرائيلي. ومن المفارقة أن الملك السعودي عندما أعدتَ له مبادرة توماس فريدمان ليقدِّمها باسم العرب وعد بـ«التطبيع الكامل». أي أن التطبيع العادي الساري في مصر والأردن لم يسرّا خاطر الدولة اليهوديّة. وقد يعد العرب في قمة مقبلة إسرائيل بفرض الولاء الشعبي العربي في المدارس والمنازل وأماكن العمل عبر تقديم قَسَم الطاعة المطلقة لسلطة الاحتلال الإسرائيلي. وقد يُفتي رئيس هيئة كبار العلماء في السعوديّة أو شيخ الأزهر بضرورة مدح إسرائيل وذم الفرس قبل الأكل وبعده. لكن كامب ديفيد لم يحدث في فراغ: لقد بدأ قبل أن يحدث. كامب ديفيد بدأ عندما أرسل الملك عبد الله (الأردني) في أول طلب رشوة من الوكالة اليهوديّة، وفي تلقّي الياس ربابي لأول دعم مالي إسرائيلي لحزب الكتائب (اللبنانيّة ـــــ لا تنسَ) أثناء الانتخابات النيابيّة في الخمسينيات. لكن دلال المغربي (وغيرها كثيرون وكثيرات) عاجلوا كامب ديفيد بالرد، حتى قبل التوقيع وقبل المصافحة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)