محمد بنعزيز *ما الذي جرى في المغرب خلال عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس؟ القناة التلفزيونية الحكومية تقول إن البلد عرف انطلاقة فعلية على كل الصعد، تمثلت سياسياً في «هيئة الإنصاف والمصالحة»، وتواتر تنظيم الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها، والتفاف الشعب المغربي الأبي على أهداب العرش العلوي المجيد، ومدونة الأسرة، وقانون الانتخابات، ومبادرة الحكم الذاتي للصحراء التي أطلقت دينامية جديدة في المنطقة... وهناك أيضاً دينامية تنموية غير مسبوقة؛
فالعقار ينفجر، والسياحة صامدة رغم الأزمة، والمهاجرون يتقاطرون على أرض الوطن الحبيب، والمشاريع الكبرى مستمرة مثل بناء الطرق السيارة والموانئ. والأهم هيكلة الحقل الديني وتوفير الأمن الروحي للمغاربة بفضل حكمة وتبصر ملك الفقراء أمير المؤمنين صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله وأيّده، الذي حمى الدين والملة من الغلو، على حد تعبير المثقف الكبير والمؤرخ اللامع أحمد التوفيق، والذي تكيف مع منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بشكل مدهش. حتى هطول المطر فضلاً من الله وازدهار الموسم الفلاحي، تعدّهما الحكومة إنجازاً لها وتفتخر بنمو الاقتصاد الوطني بنسبة 5.6% في 2008. تدعم التلفزة خطابها بصبيب من الصور التي تثبت ما تقوله لكل ناكر وجاحد. وتلك الصور واقعية، لكن هل تقول الحقيقة؟
المغرب 2009
لا داعي إلى الأسئلة التي تشتّت اليقين، ومن باب تجويد لغتي، دأبتُ أثناء تحرير هذا المقال على مطالعة جريدة «الصحراء المغربية»، المقرّبة من القصر بغرض تحسين معجمي الخاص بتعداد المنجزات وإبراز التطور ورصد التقدم والتطلع للمستقبل. وبما أني شخص متفائل وأحب بلدي، فإني أتمنى أن يكون هذا صحيحاً، لكن هناك من يقدم جواباً آخر يدمي القلب؛ إنه جواب الجاحدين من خصوم الحكومة، يعتمدون التقارير الدولية وأرقامها المذلة والجارحة كالرماح.

لا أعتقد أن محمد السادس تمكّن من تغيير تركيبة السلطة المعقّدة التي ورثها عن والده. لم يتمكن حتى لو كان قد نوى ذلك

يقولون: ترتيب المغرب هو بعد الـ 100 في كل مؤشرات التنمية البشرية ـــــ ملك الفقراء هو سابع أغنياء ملوك العالم حسب مجلة فوربس الملعونة، والملك هو رجل الأعمال الرقم واحد في المملكة ـــــ تكفل المغرب تعذيب المعتقلين المتهمين بالإرهاب لحساب الاستخبارات الأميركية، الصحف تحاكم وقد أضرب كتّاب الأعمدة فيها يوم 10-07-2009، ومنع توزيع مجلة «تيل كيل» وجريدة «لو موند» الفرنسية. تمركز السلطة باقٍ على حاله، في البلد خمسة ملايين فقير، 55 في المئة من أساتذة الجامعة المغربية لم ينشروا سطراً واحداً طيلة حياتهم، الغلاء فادح، الانتخابات صورية وتدخّل السلطة سافر في تأليف مكاتب البلديات، الحكومة تتألّف خارج معيار الانتخابات، وقد كان الوزير الأول مجرد وسيط بين الأحزاب ومستشاري الملك، حزب صديق الملك تكرار لتجارب سابقة...
هذه مقارنة مقرّبة بين خطابين يقوّمان عقداً من حكم محمد السادس. وقد حظيت المناسبة بصدور كتب وتخصيص ملفات في الصحافة للتقويم. وقد كان التقويم متناقضاً جداً جداً.
لنأخذ مسافة للقطة عامة ونقارن بين السنوات العشر الأولى من حكم الحسن الثاني 1961 ــ 1971 وحكم ابنه 1999 ــ 2009، على الصعيدين الداخلي والخارجي:
داخلياً واجه الحسن الثاني معارضة شديدة لتوطيد سلطته، كان يشرف على تكوين الجيش الذي يمر عبر استقطاب أو التخلص من قادة جيش التحرير الذين حاربوا الاستعمار، وقد قُتل المهدي بن بركة في باريس على يد ضابط في خدمة الملك. وبعد تكوين الجيش الذي ضم ضباطاً طموحين، تعرض الملك لمحاولة انقلاب نهارية في قصره في الصخيرات أثناء احتفاله بعيد ميلاده بحضور أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ الذي غنّى «الماء والخضرة والوجه الحسن»، قبل أن يندلع الرصاص.
بالنسبة إلى محمد السادس، جلس على العرش وقد انضمت المعارضة إلى الحكومة وفقد اليسار أسنانه وتقلّص النقاش من الحديث عن سلطة الملك إلى التركيز على الحياة الشخصية للملك: سفرياته وسياراته... واقتصرت المعارضة على انتفاضات صغيرة تقمع بسرعة كما حصل في مدينتي صفرو وإيفني. أما قادة الجيش، فهم هرمون أثرياء ومستقبلهم خلفهم. التنظيم الوحيد المحرج للنظام هو جماعة «العدل والإحسان»، التي طالب شيخها الملك الشاب باسترجاع الأموال التي هرّبها والده لدفع ديون المغرب.
على الصعيد الخارجي، تولى الحسن الثاني الحكم في أوج الحرب الباردة، وكان عليه أن يختار بسرعة الحلف الذي سيحميه، وكانت إطاحة الملكيات موضة في العالم العربي، وكان عبد الناصر يستضيف أعداء الملك، وكانت الجزائر رمز التحرر في أفريقيا، وقد تطاحن معها المغرب في حرب الرمال، وجرى تصوير تلك الحرب كغدر لثورة المليون شهيد، ممّا مسّ صورة المغرب.
حتى محمود درويش تناول الحسن الثاني في خطاب الديكتاتور العربي حين استخدم اللازمة التي كان الحسن الثاني يبدأ بها خطاباته «شعبي العزيز». قال درويش على لسان الدكتاتور العربي بعدما تنحنح «شعبي العزيز، ولكن قلبي عليك وقلبك من خشب أو حجر... وحيد أنا أيها الشعب...».
حظ الملك محمد السادس مع شعبه أفضل، 91 % من المغاربة يشعرون بأنه جلب التغيير حسب الاستطلاع الذي منعت «لوموند» بسببه يوم 04-08-2009. في عهد الملك الشاب، زار محمود درويش المغرب وحصل على جوائز وتكريم، وصارت صورة المغرب أفضل. ففيه وصلت أول معارضة إلى كراسي الحكم وإن لم تمسك السلطة، أخذ السجناء السياسيون الكلمة وصوّرت معاناتهم في أفلام تعرض في قاعات المملكة، ورخّص المغرب لحزب إسلامي.
خفّفت هذه الوقائع من النظرة الخارجية المعادية للمغرب، أما محاربة الإرهاب، فقد وفرت دعماً سياسياً مكّن النظام من أخذ نفَس وتبرير أفعاله. حينها كانت الجزائر خارجة لتوها من حرب أهلية وقد انطفأ بريق شعارات التحرير. ومن يقارن صورتي ملك المغرب والرئيس الجزائري بدنياً، يستخلص عبراً كثيرة. حتى الجارة الشمالية عدّلت لهجتها، إذ بسبب موجة الهجرة من جنوب الصحراء، اكتشفت إسبانيا أنها بحاجة إلى المغرب بحيث لا تستطيع أن تدفعه ليدير لها ظهره، وهو قادر على ذلك، حتى إنه سحب سفيره من مدريد.
يقول الحكيم ميكيافيلي: «عندما تُحلّ الأمور الخارجية تكون كل الأمور الداخلية قد حُلَّت»، الوضع الدولي سهّل السنوات العشر الأولى من حكم محمد السادس. سكتت البنادق في الصحراء وخفّت المطالب، وارتفعت أصوات مهرجانات الرقص والسينما لملء الفراغ الثقافي. مع ذلك يعود السؤال: ماذا يجري اليوم؟
انتقل تقلب المناخ إلى السياسة، هناك حرّ شديد وزخّات مطرية عاصفية وقحط وفيضانات. الرشوة منتشرة، الدولة تتحدث عن محاربة الفساد، المهرجانات تتكاثر والغلاء يستهلك الأجور، وزارة الداخلية تقيل محافظاً بسبب تسريب ورقة انتخابية وتجبر أحزاباً بكاملها على التصويت في اتجاه معين. سألت ملاحظاً مطّلعاً فجأة: ما الذي تغير في المغرب خلال عقد؟ أجاب: تغيرت النظرة إلى الواقع. أعدت السؤال: وهل تغير الواقع؟ لا، نعم، نعم تغير ولكن ليس بالقوة نفسها.
هي فوضى؟ هكذا سيتساءل القارئ بحثاً عن جواب. أعترف، الرؤية ضبابية، لقد لخّصتُ الجدل الدائر، وبالنسبة إلي، كانت طفلتي في السيارة تصرخ على طول الطريق من جنوب المغرب حتى شماله «تراكس، تراكس» (أي جرافات)، كانت هناك ورش في كل مكان، التغيير جارٍ على الأرض، ربما رجعت بعض الأموال إلى البلد، لكن لا أعتقد أن محمد السادس تمكّن من تغيير تركيبة السلطة المعقدة التي ورثها عن والده، لم يتمكن حتى لو كان قد نوى ذلك.
* صحافي مغربي