في غربتها القسرية في لندن، توفّيت الناشطة الإماراتية البارزة، الشابة آلاء الصديق، مساء السبت، في حادث سير، بعدما كرّست حياتها للدفاع عن معتقلي الرأي في الخليج، ومنهم والدها محمد عبد الرزاق الصديق، من موقعها كمديرة لمنظّمة "القسط" لحقوق الإنسان. وفور انتشار النبأ، بدأ التفاعل معه على مواقع التواصل الاجتماعي، التي امتلأت صفحاتها بصور الراحلة وعبارات الرثاء وأسئلة وجدانية كثيرة من قبيل: في أيّ أرض ستُدفن آلاء؟ وكيف سيكون الدفن بلا أهل أو أقارب؟ وما وقع الخبر على والدها الذي يُفترص نظرياً أن يخرج من السجن بعد أشهر، عند انتهاء محكومية السنوات العشر سجناً، والتي عوقب بها في محاكمة صورية، في إطار ما عُرف بقضية "جمعية الإصلاح" المتّهمة بالولاء لجماعة "الإخوان المسلمين"، وبمحاولة قلب نظام الحكم، التهمة التقليدية الجاهزة لدى أنظمة القمع في الخليج، والتي تعني، في القاموس الإماراتي، أن المدان بها قد لا يرى الحرية، حتى لو انتهت محكوميّته. وآلاء نفسها لم تكن تتوقّع خروج والدها المعتقل منذ 2012، بانتهاء تلك المحكوميّة، مستندة إلى حالات مماثلة لسجناء انتهت محكوميّاتهم منذ سبع سنوات، ولا يزالون في سجون الإمارات.ونعت منظّمة "القسط" الصديق بوصفها "رمز" حركة حقوق الإنسان الإماراتية، وقالت في بيان إنها "تابعت مع الشرطة والجهات المختصّة الحادث ولا ترى أيّ شبهات جنائية فيه، وهذا ما تراه الشرطة كذلك، وستنشر الشرطة نتائج التحقيقات حالما تنتهي منها". مع ذلك، رفض كثيرون التصديق أنه مجرّد حادث، ربّما لأن حوادث السيارات المدبّرة ليست غريبة على أنظمة القمع وأجهزة مخابراتها، كوسيلة لقتل الناشطين المعارضين، وربّما لأن الحادث وقع في لندن بالذات، التي يسمّيها معارضون خليجيون "عاصمة الأسرار". وحاكى هؤلاء سيناريوات كثيرة وصلت إلى حدّ وصف الراحلة بأنها "النسخة الإماراتية لجمال خاشقجي". وبالنظر إلى تفاصيل الحادث نفسها، يمكن القول إنها تفتح المخيّلات على اتّساعها. إذ إن آلاء كانت في المقعد الخلفي لإحدى سيّارتين اصطدمتا بعضهما ببعض، لينتج من الاصطدام مقتلها هي فقط، وجرح بالغَين وطفل في السيارة نفسها، وشخص واحد في السيّارة الثانية، بينما لم يُصَب كلا السائقَين بأذى. وما عزّز الشكوك، أيضاً، أن شرطة ثيمز فالي في أكسفورد شمال لندن، مكان الحادث، ناشدت مَن كانوا موجودين في المنطقة، أو مَن لديهم تسجيل كاميرا قد يساعد في التحقيق، الإدلاء بشهادتهم لديها، علماً بأن بريطانيا أكثر دولة في العالم فيها كاميرات شوارع بما يبلغ مجموعه 80 مليون كاميرا. وتناولت صحيفة "تلغراف" البريطانية الحادث، واصفة الناشطة الإماراتية بأنها كانت "معرّضة للمخاطر"، وناقلة عن ناشطين دعوتهم الشرطة إلى التحقيق لاستبعاد أيّ "فرضية غير مرغوب فيها". على أن تداول سيناريو القتل لم يقتصر على مُحبّي آلاء، بل امتدّ إلى بعض مؤيّدي حكام الإمارات، والذين لم يتركوها وشأنها حتى بعد موتها. إذ سرعان ما انطلق "الذباب الإلكتروني" برواية غير قابلة للتصديق، أوردها الإعلامي حمد المزروعي والأكاديمية وفاء أحمد، ومفادها ضلوع جماعة "الإخوان المسلمين" في الحادث. وقال المزروعي إن "آلاء عندما قرّرت الرجوع الى الوطن، وقدّمت طلب تجديد جواز السفر، فجأه تعرّضت لحادث سير أدّى إلى مقتلها…"
‏منذ اعتقال والدها، نذرت آلاء نفسها للدفاع عنه وعن كلّ سجناء الرأي في الإمارات والخليج


وأعاد موت آلاء تسليط الضوء على سيرة حافلة بالمعاناة والكفاح، لفتاة كانت في الرابعة والعشرين من عمرها حين اعتُقل والدها، بعد إسقاط الجنسية الإماراتية عنه وعن عائلته. غادرت آلاء بلادها مع زوجها المعارض الإماراتي عبد الرحمن باجبير، أوّلاً إلى قطر، حيث رفض أمير البلاد تميم بن حمد، مرّتين، طلب مبعوثين أرسلهم ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد لتسليمها؛ الأولى في 2015 والثانية في 2018، حيث عرض الإماراتيون وقف الهجمات الإعلامية على قطر في المقابل. وعلّل وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، هذا الرفض بأن التسليم يتعارض مع القانون الدولي، ومع الدستور القطري، لكونها غير مطلوبة بجرم جنائي، علماً بأن آل ثاني لم يذكر آلاء بالاسم، لكن رئيس تحرير صحيفة "العرب" القطرية، عبد الله بن حمد العذبة، قال إنها هي المقصودة. إثر ذلك، حطّت آلاء الرحال في لندن، التي كان قد سبقها إليها زوجها، حيث حصلت على اللجوء السياسي.
‏منذ اعتقال والدها، نذرت آلاء نفسها للدفاع عنه وعن كلّ سجناء الرأي في الإمارات والخليج، ولذلك هي تُعتبر خصماً لكلّ أنظمة القمع في هذه المنطقة، وليس لنظام الإمارات وحده. وكانت قد تحدّثت في مقابلات إحداها مع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن تعرّض والدها للتعذيب والإخفاء القسري، وانتقدت التضييق على الحرّيات في الإمارات، التي قالت إنها تشهد انهياراً في مجال الحرّيات والتعبير عن الرأي، بدأ بشكل رئيسي في عام 2012 مع إصدار قانون الجرائم الإلكترونية، الذي جرّم الانتقاد السلمي. "التطبيع خيانة أيّاً كان مرتكبه"، تلك كانت آخر كلمات آلاء المسجّلة، خلال العدوان الأخير على قطاع غزة، حيث فنّدت ادّعاء حكام الدولة بأن تطبيعهم العلاقات مع إسرائيل يصبّ في مصلحة الفلسطينيين. ما قد يعزّي والد آلاء وأقاربها الذين لن يتمكّنوا من إلقاء النظرة الأخيرة على جثمانها، هو أن فلسطين حزنت لرحيلها، وودّعتها بما يليق بها، فتدفقت تعابير حزن الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصّها حساب "فلسطين حرة" بمرثيّة تجمع صورها، ملتحفة العلم الفلسطيني خلال تظاهرة في لندن أخيراً، مع أغنية أم كلثوم "إذا الإيمان ضاع فلا أمان". كائناً ما كان سبب وفاة آلاء، فهي شهيدة القمع الإماراتي الذي لم يبقَ مثله الكثير في العالم، وهي شهيدة فلسطين ليس لأنها تحبّ فلسطين فقط، بل لأن خصومها من أهل النظام اختاروا أن يقيموا أكثر العلاقات دفئاً مع العدو.