يأتي اجتماع ملك البحرين، حمد بن عيسى، برجل الدين البارز، العلامة عبد الله الغريفي، في وقت يتراقص فيه الإقليم على وقع متغيّرات جمّة، مع وصول رئيس ديموقراطي إلى البيت الأبيض، وتزايد الحديث عن عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وحلحلة الأزمة السعودية - القطرية. ويُنظَر إلى الغريفي على أنه الرجل الثاني في التراتبية الشيعية، بعد آية الله عيسى قاسم، الذي يعيش في المنفى منذ صيف 2018.
المتغيّرات الداخلية والغايات
انعقد اللقاء النادر، الذي يُعدّ الأول من نوعه منذ العام 2011، في القصر الملكي يوم الأحد الماضي. وهو يأتي بعد نحو شهر من رحيل رئيس الوزراء، خليفة بن سلمان آل خليفة، وتبوّء ولي العهد، سلمان بن حمد، منصب رئاسة الوزراء، في ظلّ سجون مكتظة بالمعارضين، وبطالة متصاعدة، وقبضة أمنية خانقة للعمل السياسي، وضارّة بالاقتصاد والمالية العامة، التي تتزايد عجوزاتها وديونها. ويأمل معارضون أن يكون الهدف من اللقاء، الذي أذيع عبر التلفزيون الحكومي، إطلاق عملية تصحيحية تفضي إلى تبريد الساحة، والإفراج عن آلاف المساجين، بغية التمهيد لحوار سياسي جادّ، يقود إلى تسوية وطنية مقبولة، وهي المطالب التي سبق أن رَدّدها الغريفي في خطاباته المتعدّدة، قبل أن يتمّ تهديده بالملاحقة الأمنية. لكنّ شكوكاً تتصاعد في بعض الأوساط الشعبية، من أن تكون الغاية الأسمى للملك التقاط صورة مع الزعيم الشيعي، يُروّج عبرها ما يدّعيه من انفتاح سياسي.

المعطى القطري والإيراني والأميركي
يُذكّر ما يجري بخطوة الانفتاح الأولى التي قام بها حمد بن عيسى تجاه قوى المعارضة الوطنية إبان 2000 - 2001، في ذروة الصراع الحدودي القطري - البحريني.
ذلك الصراع الحادّ دفع الملك إلى التقدّم بعروض سخيّة للمعارضة، ثمّ ما لبث أن بلعها بمجرّد إعلان محكمة العدل الدولية تثبيت سيادة البحرين على «جزر حوار» (آذار/مارس 2001). لذا، فإن عودة بعض الدفء إلى العلاقات السعودية - القطرية تلقي بظلالها على الخيارات التي سيتبنّاها القصر البحريني، الذي استثمر الخلاف الخليجي للزجّ بزعيم «الوفاق»، الشيخ علي سلمان، في أتون عملية مخابراتية مدّعاة. كما استثمر الصراع الإيراني - الأميركي لزيادة حدّة التنكيل بالمعارضين. تقليدياً، تدفع المعارضة ثمناً باهظاً لتلك الصراعات. ومع توقّع عدم زوالها نهائياً، يُعتقد بأن احتواء المشكلَين المذكورين قد يقلّل من قدرة القصر وأجهزته الأمنية على الارتكاز على مقولات الولاء الخارج للنيل من المعارضة ومطالبها الدستورية، ويجعل من وجود زعيم «الوفاق» في السجن ساقطاً سياسياً. ويدفع رحيل دونالد ترامب عن البيت الأبيض، ووصول خلفه جو بايدن إلى السلطة، معارضين إلى التفاؤل بعدم تنفيذ الحكومة مزيداً من أحكام الإعدام. لكن يجدر التشديد هنا على أنه من دون اقتناع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، والجنرالات القابعين في قاعدة الأسطول الخامس في المنامة، بأهمية تحقيق مصالحة وطنية بحرينية، فإن القمع في الجزيرة الصغيرة سيكون سيّد المشهد.

دبلوماسية التعازي
استقبال الملك للعلامة الغريفي جرى بعد نحو شهر من رحيل خليفة، عمّ الملك. ومع عدم إعلان الطرفين ما أثمره اللقاء النادر، فإن القضايا السياسية لا بدّ أن تكون في قلبه، لكن سيكون من الاستعجال توقّع نتائج عاجلة وحاسمة. وسبق أن تمّ اللجوء إلى دبلوماسية التعازي، أو الدبلوماسية الاجتماعية، في 2018، في محاولة لإعادة الوصل الذي انقطع بين الجهات المعارضة والسلطات، حيث أدّى الغريفي واجب العزاء في وفاة حرم وليّ عهد البحرين في حزيران/ يونيو 2018، ووفاة عمّة الملك في نيسان/ أبريل 2019. وبعد شهر من ذلك، جاءت الزيارة الشهيرة لرئيس الوزراء الراحل إلى منزل الغريفي، والتي دفعت بالتواصل بين الجانبين إلى دائرة الضوء.
اللقاء النادر بين الملك والغريفي يمكن أن يسجَّل في الأرشيف إذا لم تعقبه حركة سياسية دؤوبة


لا حوار... بل هجوم
في 2018 - 2019، تعدّدت الاتصالات بين الغريفي وخليفة بن سلمان، لكنها لم ترْقَ إلى مستوى حوار سياسي منتج. وكانت لافتة مشاركة خليل المرزوق، المعاون السياسي للشيخ علي سلمان، في بعض تلك اللقاءات، التي مهّد لها الغريفي بـ»خطابات تهدئة»، أطلقها في كانون الأول/ ديسمبر 2017، ضمن محاولته الدؤوبة فكّ الحصار الأمني عن آية الله قاسم، الذي كان بحاجة ماسّة إلى العلاج، بعد أن حوصر في منزله منذ حزيران/ يونيو 2016. وكي يقول الملك إنه سيّد المشهد، فقد أعيق التواصل بين الغريفي وخليفة، بل وتلقى رجل الدين البارز تهديداً صريحاً من وزارة الداخلية، التي اتهمته بالتعاطف مع «الأعمال الإرهابية»، فيما شنّ عليه الإعلام الحكومي حملة من النقد الحادّ، مردّداً النغمة السقيمة حول الولاء للخارج. وعملياً، فإن التوبيخ كان موجّهاً لعمّ الملك، الذي أراد، عبر تلك اللقاءات، تقوية جناحه المكسور. ولقراءة تفصيلية لما جرى من «مبادرة» الغريفي ورئيس الوزراء، يمكن مراجعة سلسلة مقالات نشرت هنا بعنوان «السيد عبد الله الغريفي: الخطاب الجديد... الإشكالات والمُنتهى».

خارطة الحكم وسؤال الثقة
يدرك الغريفي خارطة الحكم. كان يعلم أن عمّ الملك لا يملك من أمره شيئاً. لكن، لمّا كان الملك قد امتنع عن الاجتماع مع المعارضين، ولمّا كان العلامة لا يُفضّل مقابلة مسؤولين من «البوليس»، لتفادي إعطاء المسألة السياسية والدستورية طابعاً أمنياً، لم يجد الغريفي مناصاً إلا التواصل مع رئيس الوزراء الراحل، لعلّه يكون باباً لإيصال رسالته التصالحية. والآن، وقد فتح الملك حمد باباً موارباً، فلا يعني ذلك أن الأمور قد أصبحت وردية. فالهجوم المعارض الذي يحمّل الملك مسؤولية إراقة الدماء والأزمة المتشدّدة، وكذا الهجوم الأمني والإعلامي الحادّ ضدّ العلامة الغريفي، يظلّل المشهد. القصر يعتبر الغريفي خصماً، فهل سيقبله شريكاً؟ وكيف سيتعامل رجل الدين التصالحي مع أيّ وعد يقطعه الملك، الذي سبق أن قدّم، قبل عشرين عاماً، وعوداً في منزل الغريفي نفسه، بالحفاظ على المكاسب الدستورية، واحترام دستور 1973، وهو الأمر الذي لم يفِ به القصر.

أين وليّ العهد؟
تفتح المتغيّرات المحلية والإقليمية باباً لولي العهد ليعلن إجراءات تصحيحية طال انتظارها، سواءً إطلاق المساجين، أم حلحلة ملفّ البطالة المتفاقم، والأهم عودة الحوار، وإعادة الاعتبار إلى التوافق الوطني. فهل يكمل ولي العهد المشوار مع الغريفي، أم أن الاستقبال الذي قاده والده يؤكد الدور التكميلي، وليس المبادر، لسلمان بن حمد، الذي تبوّأ منصبه قبل نحو شهر، في ظروف معقدة، وتقييدات تشلّ حركته في الملف السياسي، الذي يمسك بتلابيبه القصر. ولم يعلن ثاني رئيس للوزراء للبحرين برنامجاً سياسياً واقتصادياً؟ وبعد أسابيع من الآن، لن يكون منطقياً الحديث عن إعطاء مهلة إضافية للرجل، الذي يعوّل عليه بعض الأطراف الوطنيين في علاج الأخطاء الفادحة التي مارسها والده، فيما يرى أطراف آخرون أنه جزء من «الطغمة الحاكمة». يخضع نجل الملك لاختبار في القيادة، وتحوم شكوك دستورية حول وضع الحكومة التي يقودها، لكون رئيسها وأعضائها لم يؤدّوا اليمين الدستورية!

البعد التطبيعي
بعد أقلّ من 24 ساعة من الاجتماع النادر، تلقّى ملك البحرين اتصالاً هاتفياً من الرئيس العبري، في ظلّ توقعات بأن يصل رئيس وزراء الكيان، بنيامين نتنياهو، إلى المنامة قريباً. ولا شك في أن القرار البحريني بالمضيّ في التطبيع، والذي يتبع استراتيجية المحور السعودي، يرمي بثقله، ويعقّد التسويات الإقليمية والمحلية، ويزيد من الشكوك حول نيّات القصر.

ماذا بعد؟
اللقاء النادر بين الملك والغريفي يمكن أن يسجَّل في الأرشيف كذكرى، إذا لم تعقبه حركة سياسية دؤوبة يطلقها القصر الذي أدخل البلد في الأزمة، أو يُخوّل إدارتها لنجله رئيس الوزراء، لكن الأخير سيكون حذِراً خشية إغاظة المتشدّدين في الحكم والموالاة، والجوار السعودي والإماراتي. أمّا العلامة الغريفي، فهو يملك من الصدقية والجرأة ما يُمكّنه من التمهيد لعقد تسوية مربحة لكلّ الوطن، وسيتجنّب، كما تفيد التجارب، المضيّ في صفقة تنقل الحريق إلى الوسط المعارض، أو تزيد من حدّة الاستقطاب داخل الجبهة المتعدّدة للمعارضة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا