أصابت الأزمة الصحية، معطوفةً على انهيار أسعار النفط، مقتلاً من قطاعات حيوية في الإمارات، وخصوصاً في دبي المُعتَمِد اقتصادها على قطاعات السياحة والخدمات والنقل والمصارف، والتي تضرّرت بشدّة نتيجة إغلاق الإمارة اقتصادها، أسوةً بباقي الاقتصادات العالمية، للحدّ من انتشار وباء «كورونا». دبي، ثاني أغنى الإمارات و«مونتي كارلو الشرق الأوسط»، تتكبّد إحدى أقسى تبعات الأزمة الصحية، بينما يتّجه اقتصادها صوب انكماش هو الأكبر منذ عام 1986 (حرب الخليج الأولى)، قدّرته وكالة «ستاندرد آند بورز» بـ 11%. سيلُ الأنباء السيئة، لا ينقطع. فقد اصطدمت القطاعات المُشار إليها بتوقّف مروّع، لتتكشّف هشاشة النموذج المُبتَكَر يوماً تلوَ الآخر. الأزمة المركّبة الراهنة تختلف، في جوهرها، عن أزمة الائتمان (2008-2009)، حين كان مستقبل الإمارة على المحكّ، وانهار قطاع العقارات، وتكشّف الدين السيادي، وتراجعت ثقة المستثمرين. على ضخامتها، تمحورت الأزمة الماضية حول قطاع العقارات، بخلاف الأزمة الحالية التي تمدَّدت لتطال أكثر القطاعات حيويةً في الإمارة، فيما أصبحت فرص اللجوء إلى جارتها الغنية بالنفط، أبو ظبي، شبه معدومة، لكون الأخيرة تئنّ تحت وطأة انهيار أسعار الخام، وتكاليف حضورها الإقليمي.أضرار تدابير احتواء فيروس «كورونا» كانت فادحة في دبي، المتجهة، بحسب «ستاندرد آند بورز»، صوب انكماش اقتصادي يفوق أربعة أمثال ما حدث إبان أزمة الائتمان. على جري عادتها، لا تزال سلطات الإمارة تسعى إلى تخفيف وطأة الأزمة بقولها نصف الحقيقة. تقول حكومة دبي إن الناتج المحلّي الإجمالي سجّل انكماشاً بنسبة 3.5% على أساس سنوي، في الربع الأول من العام الجاري، فيما يُتوقع أن يتضاعف التأثير في الربع الثاني. وانكمشت أنشطة التجارة والنقل والتخزين في الربع الأول؛ إذ تراجع نشاط التجارة، أكبر مساهم في اقتصاد الإمارة، بنسبة 7.5% على أساس سنوي، كما تقلّص قطاع خدمات الفنادق والمطاعم بنسبة 14.8%، فيما قطاع السياحة الذي يسهم بأكثر من 11% من إجمالي الناتج المحلّي لدبي، تلقّى ضربة قاضية بعدما أغلقت عشرات الفنادق أبوابها، وانخفضت معدّلات إشغال الغرف إلى ما دون الـ 10% في فنادق أخرى. لكن الإمارة لا تزال تراهن على انتعاش سريع لقطاع السياحة فيها، مع إعادة فتح أبوابها أمام الزوار، أخيراً، على رغم القيود المفروضة على إجراءات السفر، والطقس الحارّ في هذا الوقت من العام، في انتظار دخول الموسم ذروته في الربع الأخير من السنة، والحدّ من قيود السفر العالمية. الأكيد، أن الأزمة ستحول دون تحقيق دبي هدف استقبال 20 مليون زائر في 2020، بعدما كانت قد استضافت أكثر من 16.7 مليون زائر في السنة السابقة.
تتّجه دبي صوب انكماش اقتصادي يفوق أربعة أمثال ما حدث إبّان أزمة الائتمان


وطالت الأزمة قطاع الطيران، ولا سيما مجموعة «طيران الإمارات»، المملوكة لحكومة دبي، والتي أُجبِرت على تقليص وجهات شبكتها المترامية الأطراف، وتسريح نحو 15% من موظفيها، أي تسعة آلاف موظف، بحسب رئيس مجلس إدارتها، تيم كلارك. قطاع العقارات، من جهته، تحمّل أكلافاً عالية هذه المرّة أيضاً؛ فقد خفّضت «ستاندر آند بورز» تصنيف شركة «إعمار» العقارية، وهي مِن بين كبرى الشركات في الإمارة، مِن درجة جديرة بالاستثمار عند -BBB، إلى تصنيف عالي المخاطر عند ‭BB+‬، متوقعةً تراجع أرباحها بما يراوح بين 30% و40% في 2020، وهبوط إجمالي إيراداتها بما بين 15% و20%. الإجراءات التصنيفية سرت أيضاً على «إعمار مولز» و«مركز دبي المالي العالمي» للاستثمارات، وهي وحدة مِن الشركة التي تدير مركز دبي المالي العالمي، المحور المالي الرئيسي في الشرق الأوسط. بحسب تقرير لـ«موديز»، الإثنين، فإن الجودة الائتمانية للشركات العقارية في الإمارات، ستتآكل، على خلفية الضربة المزدوجة الناجمة عن تفشي «كورونا» وتراجع أسعار النفط، إذ أوضحت أن الشركات العاملة في دبي تضرّرت بشدّة بفعل قيود السفر وضعف الطلب، ما انعكس بشكل واضح في فقدان الوظائف.
التغييرات الواسعة لهيكل الحكومة، والتي جاءت استجابة للأزمتَين الصحية والنفطية، عكست حجم القلق الاقتصادي الذي تعيشه الإمارات بفعل أزمة السيولة. ولا تستبعد مؤسّسة «فيتش» أن تضرب الأزمة المالية التي تعانيها دبي القطاع المصرفي على طول البلاد، وخصوصاً بعدما رفعت المصارف العاملة في الإمارات مخصّصاتها في الربع الأول مِن العام الجاري لتغطية الديون المعدومة بمعدلات عالية جداً (222% في الربع الأول)، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، وفقاً لوكالة «موديز». توقيت الأزمة الصحية وتداعياتها على القطاع النفطي الذي انهارت أسعاره بفعل انخفاض الطلب العالمي وحرب الأسعار السعودية - الروسية، أدّيا إلى تدهور إيرادات النفط في أبو ظبي، المرهقة، أصلاً، من أكلاف حضورها الإقليمي المتزايد، وحربيها في اليمن أو ليبيا. بمعنى آخر، لن يكون في مقدور أبو ظبي، في حال تمدّد الأزمة واتّساعها، أن توفِّر دعماً مالياً لإنقاذ الإمارات غير النفطية، كما حصل في 2008-2009. من هنا، فإن الأزمة الاقتصادية المركّبة التي تفاقمها تداعيات «كورونا»، قد تنتهي إلى أزمة في القطاع المصرفي. أزمةٌ لن تقتصر على دبي وحدها، بل ستنسحب لتشمل كلّ إمارات الاتحاد.
حتى الآن، عمل المصرف المركزي في الإمارات على تأجيل حدوث أزمة مصرفية عبر مجموعة إجراءات، من بينها تأجيل سداد الديون وخدمتها، على أمل انحسار الأزمة الصحية، وعودة اقتصاد الإمارات إلى النموّ مجدداً. ترى «فيتش» أن من شأن إجراءات «المركزي» أن تغطّي أزمة المصارف التجارية على المدى القصير، ولكنها لن تنهيها، إذ ستعاني مصارف الإمارات خلال العام الجاري من تدهور في نوعية أصولها بسبب تدهور الأعمال التجارية وتدهور الإيداعات التي كانت تحصل عليها من مداخيل النفط وحركة العقود التابعة للشركات النفطية، فضلاً عن تداعيات انهيار القطاعين العقاري والسياحي. إضافة إلى ما سبق، تعاني مصارف الإمارات من ضغوط سحب الإيداعات المستمر منها بواسطة حكومات الإمارات وشركاتها، لتلبية أوجه الإنفاق الحكومي (الأسبوع الماضي، أعلن وليّ عهد دبي، حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، عن حزمة تحفيزية هي الثالثة بقيمة 1.5 مليار درهم (408 ملايين دولار) لمساعدة اقتصاد الإمارة للتغلّب على تداعيات الوباء، ليصل مجموع الحزم التحفيزية إلى 6.3 مليارات درهم). وتُقدّر مؤسّسة «كابيتال إيكونومكس» الاستشارية أن الشركات الحكومية العاملة في دبي ستواجه خدمة ديون يقدَّر حجمها بـ 21.3 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، وهو مبلغ يعادل 19.4% من حجم اقتصاد الإمارة.



900 ألف وظيفة تتبخّر

(أ ف ب )

لا تتوافر أرقام رسمية بشأن أعداد الأشخاص الذين خسروا وظائفهم في دبي، في خلال الأزمة الراهنة، إلا أن دراسة صادرة عن مركز تحليل «أوكسفورد إيكونوميكس» البريطاني تفيد بأن الإمارات في طريقها إلى إلغاء 900 ألف وظيفة نتيجة الأزمة. ويقدِّر المركز أن رحيل الأجانب أمر «محتمل» (يعيش في دبي 3.3 ملايين أجنبي، ويشكّلون 90% من سكان الإمارة)، وهو ما من شأنه أن يؤدّي إلى خفض عدد السكان بنسبة نحو 10% في البلاد، مع ما لذلك من «عواقب وخيمة» في قطاعات رئيسة، بينها نقص الأيدي العاملة في قطاع المطاعم والفنادق وتخفيض الاستهلاك وزيادة العرض في سوق العقارات. ويرى سكوت ليفرمور من «أوكسفورد إيكونوميكس» الشرق الأوسط، والذي كتب التقرير، أن دعم الدولة يُركِّز على المواطنين، على اعتبار أن الأجانب «سيعودون إلى بلادهم أو يذهبون إلى بلاد أخرى عندما لا يكون لديهم عمل»، معتبراً في حديث إلى «فرانس برس» أن «هذه سياسة واعية مدروسة ليبقى الأجانب وافدين من دون أن يصبحوا مهاجرين».
(الأخبار)