سؤال الساعة عند المراقبين والمحللين العراقيين إزاء مرحلة ما بعد استكمال الانسحاب الأميركي من العراق لا يزال نفسه: ما الذي ساعد ويساعد على استمرار تحكُّم مجموعة من الثنائيات والتقابلات القائمة على الأوهام والشعارات الطائفية المغلفة بالمفردات الوطنية في سياقات الوضع السياسي والاجتماعي في عراق ما بعد الاحتلال، بما يؤدي إلى تمزيق النسيج المجتمعي ويدفع بالبلاد نحو كارثة الاقتتال الأهلي والحرب الأهلية المفتوحة مجدداً؟ أول هذه العوامل غياب القطب الوطني المدني وغير المتمذهب طائفياً عن الميدان، وخصوصاً بعدما حدث ما حدث من تطورات داخل قائمة «العراقية»، جعلتها، باعتراف قياديين انشقوا عنها، لا تختلف في هويتها السياسية والمجتمعية عن «جبهة التوافق» التي التحقت هي وحلفاؤها بـ«العراقية»، وبعد ما حدث لأحد أهم وأقدم الأحزاب العلمانية العراقية، أي الحزب الشيوعي العراقي الذي حوّلته المجموعة المهيمنة على قيادته منذ عقدين إلى مجرد ملحق ودكان إعلامي للأحزاب القومية الكردية.
العامل الثاني يكمن، بحسب بعض الباحثين، في ركائز حكم المحاصصة الطائفية، وأولاها الدستور النافذ. هذا الدستور كما يكرر اليوم حتى المدافعون عنه، كُتب في ظروف غير طبيعية، وبتدخلات خارجية. وتؤكد وقائع موثقة أنه كُتب بمساهمة فعّالة ومريبة من قبل عدد من الخبراء الأجانب، من أشهرهم غالبريث وفيلدمان. ثالثاً، وهو العامل الأهم، مثلما يرى مراقبون كُثر، هيمنة «الصقور» على قيادات الأحزاب والقوى السياسية داخل العملية السياسية العراقية وخارجها. إنّ هيمنة «الصقور» على قيادات الأحزاب، ظاهرة يمكن اعتبارها عراقية خاصة إلى حدٍّ ما، لا تقتصر على ميادين السياسة، بل قد تتعداها إلى مجالات الحياة الأخرى كالأدب والفن والمجتمع والسلوك الفردي، إذ لا مكان عند العراقيين، إلا نادراً، لما هو رمادي ووسطي. ومن الأمثلة المرَجِّحة لوجهة النظر هذه، ما يسرده أحد الباحثين حين يقول إنّ «أحمد الجلبي مثلاً، الذي يوصف بالعلماني، هو الذي أسّس أول منظمة سياسية طائفية تُدعى البيت السياسي الشيعي»، وهو لا يقلّ تطرُّفاً عن زميله النائب السابق عدنان الدليمي، صاحب الخطابات الطائفية العنيفة في إسطنبول، حيث وصف الشيعة العراقيين بـ«القرامطة الجدد»، داعياً إلى «إنقاذ بغداد من براثنهم». تشابُه لا يبطل مفعوله الفارق العمري والثقافي بين الرجلين، رغم أنّ كليهما يزعم الاعتدال والانحياز إلى شيء من «العلمانية» السياسية. كذلك يمكن أن نأخذ فكرة أوضح عن تطرُّف الصقور من الطرفين من خلال المثال الآتي: إنّ المنادين بطرد من يسمّونهم «الحكام الإيرانيين»، أو «ذوي الأصول الإيرانية»، أو «أتباع إيران الذين جاؤوا على ظهر الدبابة الأميركية»، والبدء من الصفر لتأسيس النظام الذي يعجب أصحاب هذه الشعارات السنيّة، لا يقلّون خطراً على العراق عن المتطرفين الشيعة في حزب نوري المالكي، أي «الدعوة الإسلامية»، أو عن غيره من الأحزاب الإسلامية الشيعية. من الجهة المقابلة التي يمثّلها صقور الأحزاب الشيعية، فإنّ لغة التطرف والإقصاء واتهام الخصوم السياسيين والمختلفين والمخالفين لهم عموماً هي السائدة أيضاً، إذ إنّ هؤلاء بنظر متطرّفي المعسكر الشيعي «قتلة ومجرمون من أتباع تنظيم القاعدة والبعث الصدامي، والحوار معهم يجب أن يكون بموجب المادة الرابعة، على اعتبار أنهم مجرد إرهابيين». وما يزيد من تأثير العامل الأخير، الخاص بهيمنة «الصقور»، في هذا المعسكر وذاك، هو تردُّد وندرة وعدم وضوح برامج مَن يمكن وصفهم بـ«الحمائم»، هنا وهناك أيضاً، وتقلُّبهم في المواقف والخيارات من النقيض إلى النقيض.
إن نوري المالكي مثلاً، الذي كان يمكن أنْ يدخل التاريخ العراقي بوصفة المنقذ والمخلِّص من الحرب الأهلية الطائفية التي بلغت ذروتها عامي 2006 و2007، لأنه تماشى وتساوق آنذاك مع الشعور الشعبي العام الرافض للمحاصصة الطائفية، وما جلبته من اقتتال دفعت الطوائف كافة ثمنه، تحوّل في ما بعد إلى الحاكم المتنفِّذ باسم طائفة واحدة. بل يذهب بعض المراقبين إلى التأكيد أنه صار يمثّل قائمته الانتخابية «كتلة القانون» أكثر ممّا يمثل التحالف الوطني «الإسلامي الشيعي».
إنّ الصرخة التي أطلقها قبل أيام نائب رئيس الحكومة من «القائمة العراقية»، صالح المطلك، واتهم فيها رئيسه المباشر بأنه «أكبر دكتاتور في تاريخ العراق»، وأنه «يقود البلاد إلى حرب أهلية»، قد لا تخرج عن لغة الخلافات والمناكفات السياسية السائدة في العراق وغيره من بلدان خارجة لتوِّها من ظلام الدكتاتورية والاحتلال الأجنبي، ولكنها، بعد قليل من التمعُّن، تكشف عن مستوى خطورة الوضع الذي آل إليه التحالف السياسي الطائفي الإثني الحاكم. ورغم أن كلام المطلك قد لا يعني في نظر البعض إلا مزحة ثقيلة، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة أو مماثلة حكم المالكي وشخصيته بحكم وشخصية آخر دكتاتور حكم العراق بالحديد والنار والمشانق، أي صدام حسين، أو اعتباره أسوأ منه بأيّ مقياس سوسيولوجي أو سياسي أو تاريخي كان، ولكن كلمات المطلك ربما تشي بالهلع الذي يشعر به الطرف الطائفي المقابل، وهو هلع له ما يبرره كثيراً. إنّ عنصر المفاجأة ليس في طبيعة تصريحات المطلك، بل في الشخص الذي أطلقها، أي المطلك، وهو المعروف بأنه قيادي سياسي لم تعرف عنه أي ميول أو ماضٍ أو مواقف طائفية أو إسلامية عموماً، مع أنه محسوب على زعماء العرب السنّة واقعاً. إنّ حالة صالح المطلك تشبه إلى حدّ كبير حالة نوري المالكي مع الفارق الشكلي؛ فالمطلك سياسي ذو ماضٍ بعثي، انشق على النظام السابق مبكراً حين فُصِلَ من الحزب سنة 1977، ثم عاد إلى النشاط كرجل أعمال منتِج للقمح والشعير خلال فترة الحصار على العراق في تسعينيات القرن الماضي. لقد أخذت مواقف المطلك تتماهى تدريجاً مع وضعه الشخصي كعضو في طائفةٍ تمثّل المادة السياسية الأساسية لحزبه «جبهة الحوار الوطني». وبفعل التطورات السياسية على الأرض، ومنطقها التابع لحالة الصراع الطائفي المعلن أو غير المعلن، نجد ما يفسّر انقلاب مواقف المطلك، وهو تفسير ينطبق على حالة نوري المالكي وانقلابه على مواقفه بعد معارك «صولة الفرسان» عام 2008.
وهنا مثال ملموس يوضح هذا الرأي ويدعمه: لقد عُرِفَ المطلك بأنه الزعيم السياسي الثاني بعد إياد علاوي الذي وقف ضد مشاريع «الأقلمة» (تحويل بعض المحافظات إلى أقاليم) التي انتشرت الدعوات إليها في مناطق العرب السنّة قبل أسابيع من إتمام انسحاب قوات الاحتلال. وقد جاءت هذه الدعوات رداً على اتهامات، بعضها حقيقي وأكيد، بالإقصاء والتهميش من منطلقات ثأرية طائفية. فمحافظة صلاح الدين أعلنت تحوُّلها إلى إقليم، ونينوى تهدّد بالمآل ذاته، والأنبار تستعد لاستفتاء حوله، وديالى أعلنت قرارها أيضاً قبل أيام. سارع المطلك في البداية، كسياسي غير طائفي، إلى رفض الدعوة إلى تحويل محافظة ديالى إلى إقليم تتويجاً لرفضه للدعوة ككل من منطلق وطني وقومي عروبي، ولكنه بعد يوم واحد على تصريحه الرافض للأقلمة، تراجع وأعلن تأييده لها بلغة هجومٍ وتحدٍّ، طالباً من أنصار الإقليم في ديالى «الصبر والصمود، فالفجر قريب». والسبب في هذا الانقلاب، بحسب تسريبات مصادر سياسية من داخل «جبهة الحوار»، هو رفض واسع بين صفوف العرب السُنّة في ديالى لتصريحاته المعارضة للإقليم في ديالى، بلغ درجة تقديم بعض أعضاء حزبه استقالاتهم الجماعية الاحتجاجية، لذلك قرّر المطلك تغيير موقفة 180 درجة، فانقلب من رافض للإقليم إلى موافق عليه.
البعض قد لا يلوم المطلك على هذا القرار، فالسياسية كما يعرفها أهلها هي «فنّ الممكن للحفاظ عن المكاسب والقوة». لكنّ متابعين للشأن العراقي ذكّروا بواقعة مماثلة حدثت للمالكي؛ لقد تمرّد هذا الأخير، لفترة من الزمن، على منطق حكم المحاصصة الطائفية حين كان يقترب من حسم الوضع الأمني خلال «سنوات الجثث» لمصلحة حكومته، في ما عُرف بـ«صولة الفرسان»، والخروج بانتصار كبير من الانتخابات المحلية بعدما كسب تعاطف فئات اجتماعية مختلفة رأت فيه متمرداً على الطائفية لمصلحة المخزون الوطني في الذاكرة الجمعية العراقية. كان المزاج الشعبي العام قد سئم من الطائفية وتذابح الميليشيات، فرفضها المالكي بعمق وحمّلها مسؤولية الكوارث الدموية التي حدثت. آنذاك، اقترب المالكي كثيراً من المفهوم الصحيح للمصالحة الوطنية التي تتطلب التنازلات المتبادلة والاعتراف بالخصوم وبوزنهم السياسي والمجتمعي، ولكنه، بمجرّد أن شعر أن شعبيته وشعبية حزبه «الدعوة الإسلامية» بدأتا تتأثران سلباً بتلك السياسات في بعض مناطق الجنوب والفرات الوسط، حتى انقلب على سلوكه التصالحي الجديد، وعاد سريعاً إلى المنطلقات الطائفية الصقرية.
من مثالَي المطلك والمالكي، يمكن أن نفهم ونقدِّر حجم الخطر التي تمثّله الظاهرة الطائفية السياسية حين تتحرك من دون أن تجابه بأيّ مضادات وطنية وديموقراطية حقيقية، وكيف تَقْمَع وتقيّد حتى غير المعتقدين بها، بل وحتى المناوئين لها إيديولوجياً.
لكن، هل يقود المالكي الوضع في العراق إلى حرب أهلية مقبلة كما يتّهمه خصومه اليوم؟ بحسب بعض المحللين، يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب من دون تردُّد، وخصوصاً إذا استمر، كرئيس للوزراء ومعه فريق مستشاريه وأغلبهم من الصقور الطائفيين، بقيادة البلد بطريقة فردية وإقصائية، أو إذا أغراه خيارُ حكومة الأغلبية وأقدم عليه. إنّ هذا الخيار، وفق هؤلاء المحلّلين، سيكون البوّابة المشؤومة لدخول العراق الحرب الأهلية الطائفية مجدداً. ويبدو أن قائمة «العراقية»، أو الأطراف النافذة فيها، قد قررت أخيراً، «في اجتماعها الساهر» في منزل نائب الرئيس طارق الهاشمي، تقديم هذه الهدية، أي حكومة الغالبية للمالكي، عندما علّقت مبدئياً عضوية نوابها في البرلمان ووضعت استقالات وزرائها ونواب الرئاسات فيها تحت تصرف قيادة الكتلة، أمرٌ سيجعل حكومة الغالبية واقعاً لم يسعَ إليه المالكي وحلفاؤه. تصعيد خطير قد يدفع صقور «العراقية» إلى التفكير في اللجوء إلى خيارات العنف الواسع، فتجعل من الممكن أنْ نشهد موجة تفجيرات وعبوات ناسفة واغتيالات بكواتم الصوت قريباً. ومع أنّ إمكان حسم هذه الحرب لمصلحة هؤلاء الصقور تقترب من الصفر، غير أنها ستنتهي بتدمير شامل للعراق ومجازر تطهير عرقي وطائفي فظيعة للعراقيين، لن تنجو منها أي طائفة أو قبيلة أو أسرة، بل ستكون طائفة العرب السنّة أكبر الخاسرين فيها إذا انساقت وراء شعارات «الصقور» خاصتها، وهذا ما ينبغي على الحمائم والعقلانيين الحؤول دونه.



الفدرالية وخوف الأقليّة


يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد إحسان الشمري إن «الطبقة السياسية تواجه تحدياً كبيراً في فترة ما بعد الانسحاب الأميركي يتمثل في التعامل مع شعور العرب السنّة بالتهميش». ويضيف «أعتقد أن العرب السنّة يقتنعون بأنهم لن يستطيعوا الوصول إلى السلطة التنفيذية، ولذا يحاولون أن يبحثوا في مناطقهم عن سلطة أوسع، ما قد يزيد من تشبّتهم بمسألة الأقلمة» التي تشرّعها المادة 119 من الدستور العراقي. بدوره، يقول مدير الدراسات العليا في جامعة بغداد حميد فاضل إن «الذين يطالبون بالفدرالية هم الأقلية (السنّة)، وذلك بسبب الخوف الذي يعتري هؤلاء من تحكّم الغالبية في مقاليد الحكم». ويتابع أن «الحكومة، للأسف، أعطت مبرراً لمحافظات في أن تقدم على مشروع قد لا يكون مستنداً إلى إيمان بالفدرالية، بل إلى ردّ فعل على تحكّم السلطة المركزية في جميع الصلاحيات».
(أ ف ب)