تونس | من المنفى إلى قصر الجمهورية. ها قد تحقق حلم الطبيب المنصف المرزوقي، الذي انتخبه أمس أعضاء المجلس الوطني التأسيسي رئيساً للبلاد خلال الفترة الانتقالية المقبلة. الرجل الأشرس في معارضته للرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي بدا كأنه لم يصدق أن دعوته الشهيرة بتحقيق «المقاومة المدنية» أتت أُكلها، وانسحب الرئيس المخلوع فاراً إلى السعودية تاركاً مفاتيح القصر بيد الجيش الذي سيكون مضطراً إلى تسليمها للمرزوقي. مشوار الطبيب منذ انخراطه في العمل السياسي لم يكن سهلاً. بين الحصار والسجون والتهجير، خاض العديد من المعارك ضد الاستبداد السياسي. فخلافاً لتكوينه الأكاديمي، انشغل المرزوقي في بداية الثمانينيات بالعمل الإعلامي، حيث كان كاتباً في العديد من الصحف المعارضة في عهد بورقيبة، شأن «الرأي» و«المغرب» و«الصباح». يقول المرزوقي «في عام 1984، ذهبت لزيارة بورقيبة مع وفد لمطالبته بقانون يحمي المعاقين. إبان ذلك اللقاء، لاحظت التردّي الهائل للجسم والعقل عن رجل كان مصيرنا جميعاً بين يديه، فخرجت من اللقاء بالغ الغم والقلق». ومنذ ذاك الحين، انشغل المرزوقي بالنشاط الحقوقي، حيث انخرط في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ورغم ميوله القومية، استمات في الدفاع عن أحد المرشحين للهيئة المديرة لتلك الرابطة، بعدما تعرض لهجمة بسبب اعتناقه الدين اليهودي.
وفي 1990، وقف المرزوقي بقوة ضد ضمّ الكويت الى العراق، واعتبر صدام حسين أحد أبغض الديكتاتوريين. وكان ذلك بداية طلاقه مع الفكر القومي. كذلك لم تكن علاقته مع الإسلاميين على خير ما يرام. يذكر أنه ذهب في الثمانينيات لحضور درس في أحد مساجد العاصمة، ويقول «خرجت من الدرس مصدوماً من خطاب فج وعنيف وعنصري لا يختلف هيكلياً عن خطاب أقصى اليمين الفرنسي، لكن بتغليف ديني». ويضيف إنه اتهم بالكفر والإلحاد لمجرد أنه دعا في محاضرة بمدينة باجة إلى «ضرورة فصل الدولة عن الدين لأن كل التجربة التاريخية لكل الشعوب تظهر أن المزج بينهما وقع دائماً لمصلحة الدولة التي تستعمل الدين كغطاء للاستبداد».
وصول زين العابدين بن علي في 7 تشرين الثاني 1987 الى الحكم، كان محل ترحاب من المرزوقي لـ«كل الأسباب السياسية المعروفة، ولسببين خاصين: أولهما توقف الملاحقات ضدي وإطلاق سراح كتابي، وثانيهما رجوع والدي الذي أقسم أنه لن يطأ أرض تونس ميتاً أو حياً تحت حكم بورقيبة». لكن بمجرد انقشاع الغبار على زيف وعود بن علي في إرساء الديموقراطية والحريات، عاد المرزوقي إلى موقعه الأصلي، إلا «أن القطيعة لم تحصل إلا في مناسبة انتخابات 1989 التي كان لتزييفها وقع الصاعقة على نفسي، رغم أنني كنت آخر من يود أن يفوز بها الإسلاميون».
ترأس المرزوقي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تلك السنة. وطيلة قيادته لتلك المنظمة، اهتم بقضايا الحريات والتنديد بانتهاكات حقوق الإنسان، ما أدى إلى تشديد خناق السلطة على الرابطة، إلى أن قررت في شهر حزيران 1992 حلها بعدما رفضت التأقلم مع قانون جديد للجمعيات صُمّم لضرب الجمعيات المستقلة. وفي العام نفسه، جرى الزجّ بالمرزوقي في السجن بعدما قدم ترشيحه لمنافسة بن علي في انتخابات رئاسة الجمهورية «لكسر هالة القداسة المفتعلة حول هذا المنصب»، لكن أُطلق سراحه بعد أربعة أشهر إثر تدخل الزعيم نيلسن مانديلا، ليقرر بعد ذلك التفرغ للكتابة، فعمل على كتابي «الاستقلال الثاني» و«الإنسان الحرام» حتى عام 1997، حين أسس المجلس الوطني للحريات بتونس، ومن «يومها تكثف الضغط عليه بصفة رهيبة». ترأس بعدها اللجنة العربية لحقوق الإنسان بباريس بين الفترة من 1997 حتى 2000. وفي عام 2001، هاجر إلى فرنسا نهائياً. كانت القنوات الفضائية لا تكل في استضافته، فكان محافظاً على نفس الخطاب الذي يداوم على انتقاد فساد الرئيس وعائلته والتهجم على أحزاب المعارضة الشكلية، ودعوة التونسيين إلى إطاحة نظام «لا يَصلح ولا يُصلح» إلى أن تحقق له ذلك يوم 14 كانون الثاني الماضي. ومع عودة المرزوقي إلى تونس، اقتحم العمل السياسي بتأسيسه حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية».