الأردن | في مخيم شنلر أو حطين، وبالتحديد في بقعة من مجاهل المخيم، تعرفت إلى شاب يرتدي دوماً «البرنيطة الفرنجية»، على طريقة زياد سحاب. ذو وجه طويل تفصل بين أنفه وشفته العليا مساحة شاسعة تدل على طول أسنانه، فضلاً عن شعره الطويل الذي يجعله يشبه شخصية الهندي الأحمر «إينجانجو» المجرم الذي يرد في رواية مارك توين المسماة «توم سوير»، التي عرضت على التلفزة مرة في مسلسل كرتوني يحمل الاسم نفسه.
إينجانجو كان يكتب الشعر، لكن ما كان ينبغي له ذلك؛ فهو من شعراء «الرمزية» التي يبقى معنى قصائدها في بطن الشاعر. بكلمات أخرى، هو أصبح شاعراً «من القلة». قصائده التي يصفها «بالغزلية» عبارة عن وصف مبتذل، أجاده فقط نزار قباني في وصف المرأة وجسمها. لكن رغم ابتذال نزار، إلا أنه يأتي في المرتبة الثالثة بعد إينجانجو، الذي يصف في إحدى قصائده علاقة جنسية بحتة، ما أثار استيائي في الأمسية، فقلت له ساخراً: لو كنا نعرف أن هذه هي قصائدك، لذهبنا إلى السينمات الإباحية؛ فهناك على الأقل نرى ونسمع، صوتاً وصورة. فردّ الشاعر بلهجة هادئة تنمّ عن شاعرية وحضور رومانتيكي: «أنا أصنّف نفسي شاعر المرأة». كنت أظن أن هذا أسوأ ما فيه، لكن تبين أن قصائده «الغزلية» كانت أرحم من شعره السياسي ومعاناة اللاجئين، وخاصة قصيدته «المدمرة للحياة» والمسماة «دموع منثورة على قميص حنظلة بن يعقوب». والمدهش أنه، مع إعرابي عن رأيي بـ«أعماله»، كان كلما رآني يطلب مني أن أنقد قصائده السياسية مثل: «مخيم السردين» و «لاجئ من أجل الفرار» والعديد من العناوين التي تبيّن أنها أفضل بألف مرة مما يليها من «قصائد»، لدرجة أنني اقترحت عليه أن يعمل مؤلفَ عناوين قصائد فقط، أو يكتب الشعر الياباني المسمى «الهايكو» ذو الأربع جمل. إينجانجو كان مدمناً حتى الموت لشعر مُعين بسيسو ومظفر النواب، ويا للصدفة... ناظم حكمت! سكن إينجانجو مع شباب، أحدهم قروي طيب من أصول شرق أردنية. قال لي القروي إن هذا الإينجانجو يسرق من القرآن قوافي لشعره! بالرغم من أن إينجانجو لم ينه تعليمه الإعدادي، ويعمل في البناء، إلا أنه يقرأ الشعر ويهواه ويحاول أن يرصّ بعض الكلام في قصائد نثرية أدونيسية درويشية، كما يسميها بعض الأحيان.
صحيح أن هذا الشاعر واحد من عشرات الآلاف الذين يرصّون الكلام وينشرونه طمعاً في تميّز ما، لكن من ناحية أخرى، أن يكون هناك شاب في مخيم للاجئين الفلسطينيين لم يكمل تعليمه الإعدادي حتى، ويحاول أو يدعي أنه يحاول، كتابة الشعر، فهذا معناه أنه رغم قسوة ملامح إينجانجو إلا أنه على ما يبدو يحمل بين ثنايا ملامحه القاسية والمرعبة أحياناً، إنساناً لطيفاً يحاول أن يحلم...