ينظر البعض الى المخيمات الفلسطينية على انها بؤر امنية من المخيف الدخول اليها. آخرون يرون فيها بؤراً ستشهد توترات حتمية، وأبناء المخيمات بالنسبة إلى هؤلاء إما ارهابيون محتملون او «زعران» مطلوبون للدولة. هذا هو ملخص ما يحس الفلسطيني ابن المخيم بأنها صورته عند اللبناني. لكن هناك بالمقابل نظرة الفلسطيني تجاه اللبناني. بالنسبة إلى اغلب ابناء المخيمات، المعادلة بسيطة وهي «لا نحب من شارك في قتلنا» يقول فادي محمد ابن مخيم برج البراجنة. يعدد الشاب الجامعي الاحزاب اللبنانية التي ساهمت بطريقة او بأخرى في ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين «الكتائب ابادوا مخيم تل الزعتر، القوات ارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلا، حركة امل افتعلوا حرب المخيمات» يقول. هنا ينتبه الشاب الى انه اذا احصى عدد مناصري من ذكرهم «بطلع بكره نص الشعب اللبناني» يقول ساخراً.
محمد «ينفر» كلما يصف من شارك في القتال ضد الفلسطينيين، بالنسبة اليه، هؤلاء «لا يختلفون عن الاسرائيلي». تسأله لكن، الم يكن الفلسطينيون طرفاً في الحرب الأهلية؟ الا تُعدّ هذه افكاراً مسبقة تجاه «نصف الشعب اللبناني» لكون الحرب الاهلية انتهت منذ جيلين او ثلاثة؟. يجيب «الدم لا يصبح ماء»، يضيف ضاحكاً «انا مش عباس زكي لاقدر اسامح واعتذر ممن شارك في قتلي».
تسير في ازقة المخيم وتصل الى جبانته. هنا للمكان رمزيته ايضاً. فأبناء تلك المنطقة من المخيم اكثر من عانوا خلال حرب المخيمات وذلك بسبب قربها من طريق المطار. تسأل مجموعة شبان جالسين في مقهى قرب الجبانة، عن رأيهم باللبناني. هؤلاء تختلف آراؤهم حول اللبنانيين بحسب انتماءاتهم الحزبية. فابن حزب الله على «راسنا، هادا عم يقاتل الاسرائيلي»، يقول احدهم. اما «القواتي ما بقدر اتخايله، ما بقدر انسى هو وابن حركة امل ايش عملوا فينا». تقول في نفسك الحمدلله ان الفلسطيني لا يختار خندقه بعد على اساس طائفي!
لكن اللافت انه عند السؤال عن النظرة تجاه الآخر، فإن اول ما يحضر هو استذكار «الدم» بين الطرفين. يشير احدهم لك باتجاه الجبانة «تخيّل كنا ندفن موتانا هنا في هذه الفسحة لأننا لم نكن نتمكن من دفنهم خارج المخيم من شدة القصف علينا».
تترك مخيم برج البراجنة وتتجه الى مدارس الاونروا بالقرب من محطة الرحاب. هناك على باب المدرسة يقف عدد من طلاب المرحلة الثانوية بعد انتهاء دوامهم. تسألهم كيف يرون اللبناني؟ ما هي صورته لديهم؟. بمجرد طرحك السؤال، يفتح باب النقاش على مصراعيه: اللبناني؟ هنا ايضاً يستذكر الدم والحقد، لكن بدون وجوه حقيقية، إذا اخطر. هؤلاء لا يتذكرون شيئاً من تلك الحروب فهم لم يكونوا قد ولدوا بعد. لكن «كنت اسمع من اهلي ان القوات ارتكبوا بالقرب من منزلنا مجزرة صبرا وشاتيلا، وأن والدتي بقيت حيّة لأنها استطاعت الهرب الى داخل المخيم قبل الوصول اليها»، يقول احد هؤلاء الشبان. الشاب لم ير قواتياً في حياته «ولن ارى، لانني لا ادري ماذا سيكون رد فعلي تجاهه» كما يقول. الحماسة المفرطة لدى الشباب تختفي بمجرد ان تأخذ دور «محامي الشيطان». لكن الم يكن الفلسطيني بنظر هؤلاء هو من يخوض حرباً في بلد ليس بلده؟ هنا يصمت الجميع للحظات يحاولون استرجاع ما رواه لهم اهلهم. «لا زلت اذكر عندما اخبرني والدي كيف كانوا خلال حصار المخيمات يأكلون لحم الحمير، وكيف كانوا يدفنون الموتى داخل المخيم»، يقول شاب آخر.
تترك الطلاب وتتجه الى مخيم شاتيلا. بالقرب من مقبرة شهداء المجزرة الأشهر، لا يختلف وقع السؤال كثيراً. فذكرى المجزرة ماثلة في المكان والقلوب والاجساد. بالطبع «كل الحق على القوات»، كما يقولون هنا. اما الإسرائيلي؟ فطبيعي ان يقتلنا لكن بيد اللبناني؟ من هنا الحرقة. بالنسبة إلى ابو مصطفى طاقة، الرجل السبعيني «الكل شارك في اراقة الدم الفلسطيني، حتى انظمة عربية شاركت في ذلك فلماذا العتب على الافراد؟» يسأل الرجل. يصمت طاقة قليلاً كأنه يسترجع ابرز محطات الثورة الفلسطينية في لبنان. بالنسبة إليه، «الكل أخطأ خلال الحرب، يكفي ان الجميع قد اعتذر». يضيف الرجل «جعجع اعلن اعتذاره عما جرى خلال الحرب الاهلية، وعباس زكي اعتذر بدوره عما فعلناه نحن ايضاً. لذلك علينا ان نفتح صفحة جديدة». لكن، ماذا عن حركة امل؟ يلاحظ الرجل بعتب وحزن كيف «اعتذر الجميع عما ارتكبوه خلال الحرب الاهلية الا نبيه بري، فهو لم يعتذر عما فعله بنا خلال حرب المخيمات»، يقول الرجل.
المواقف تجاه «الآخر» اللبناني لا تنطلق فقط من الإجابة عن سؤال من ارتكب المجازر، والحمد لله. فالذاكرة المؤلمة لها وجهها الآخر: هكذا، يتذكر أولاد المخيمات، وبعرفان بالجميل، كل من دعم المطالبة بالحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين في مجلس النواب. لكن، وللمفارقة، لا بد عندها من تذكر من رفض دعمهم. ففي الفترة الاخيرة، وخلال عملية اعادة اعمار مخيم نهر البارد، اصبح هناك فئة جديدة بالنسبة إلى الفلسطينيين، يجب اخذها في الحسبان بسبب مواقفها السلبية منهم وهي العونيون. فبالقرب من مركز الجبهة الديموقراطية في مخيم شاتيلا، يجلس ابو محمد يروي كيف تابع فترة المطالبة بالحقوق المدنية. «حتى في ايام السلم لا يحبوننا، كأن مجرد التعاطي الإيجابي معنا سوف يعطينا الجنسية اللبنانية ويحقق رعب التوطين» يقول الرجل. يضيف «تحالف الجميع ضدنا عندما طالبنا بحقنا في العمل، سلّمنا بواقع منع التملك، مع انه جائر، فلا احد له الحق في ان يمنع رجلاً او امراة من ترك ملكية صغيرة تؤمن حياة الاولاد، ومع هذا فلنسلم جدلاً. لكن ان يمنعوننا من حقنا في العمل وكسب رزقنا بعرق جبيننا؟ فهذا غير مقبول، لا افهم كيف يكون الجنرال ميشال عون حليفاً لحزب الله في السياسة المحلية، وضد الفلسطينيين في مجلس النواب». يصمت الرجل قليلاً، ثم يعلن موقفاً نهائياً، هو بمثابة ملخص عن استراتيجيته تجاه الاحزاب اللبنانية بعبارة «اللي بشوفني بعين بشوفوه بعينتين». اما الناس، فذلك حديث آخر.




في 16 أيلول 1982 ارتكب حزب الكتائب مجزرة صبرا وشاتيلا، التي استمرت ثلاثة أيام. عدد الشهداء في المجزرة لا يُعرف بوضوح، وتراوح التقديرات بين 3500 و5000 شهيد، معظمهم من الفلسطينيين، لكن من بينهم لبنانيون أيضاً. وقد دخل عناصر الكتائب، بقيادة إيلي حبيقة، إلى المخيم وبدأوا تنفيذ المجزرة بعيداً عن الإعلام، مستخدمين الأسلحة البيضاء في تصفية سكانه، بينما كانت مهمة الجيش الإسرائيلي محاصرة المخيم وإنارته ليلاً بالقنابل المضيئة، ليرى القتلة ضحاياهم.