الخرطوم| حال من اللامبالاة سيطرت أمس على الأجواء في الخرطوم رغم توجّه البلاد نحو التقسيم، وبينما وقف أبناء الجنوب في صفوف طويلة ينتظرون دورهم للإدلاء بأصواتهم، انعكست برودة الطقس في العاصمة الخرطوم على تعامل الشارع الشمالي مع بدء عملية الاقتراع. وشهدت شوارع العاصمة السودانية حركة مرور خفيفة للمواطنين، رغم أن الدولة نفت ما أشيع عن منحها «عطلة رسمية» للموظفين الحكوميين أثناء أيام الاقتراع السبعة. وبدت الحركة في أسواق وسط العاصمة بطيئة على غير عادتها في بداية الأسبوع، بل إن كثيراً من المحال التجارية أقفلت أبوابها أمام الزبائن. أما الذين امتلكوا الجرأة للخروج إلى الشارع، فتشاركوا في عدم اكتراثهم لعملية الاستفتاء برمّتها.

ويوقن المستمع إلى أحاديث سائقي سيارات الأجرة في أحد شوارع الخرطوم، وهم يتمازحون في أثناء تقاسم غلة اليوم، أنّ أبعد شيء يمكن أن يفكروا فيه في تلك اللحظة، هو أن ثمة آخرين في أقصى جنوب بلادهم تسود بينهم ذات أجواء الفرح والغبطة، ولكن لأسباب أخرى تتعلق بولادة دولة خاصة بهم، حالمين بأن تخلّصهم من الظلم الذي لحق بهم من الشمال طيلة عقود مضت، وهو الأمر الذي رسّخه القادة السياسون الجنوبيون.
جمال، الذي لم يُخف امتعاضه مما أقدمت عليه الحكومة السودانية، بإعطائها الجنوبيين حق تقرير المصير، فضّل أن يمارس حياته بشكلها المعتاد، وقرر الذهاب إلى عمله منذ ساعات الصباح الأولى. وأكد لـ «الأخبار» عدم مبالاته بما سيؤدّي إليه الاستفتاء. قال «إن جاءت نتيجة الاستفتاء وحدة أو انفصالاً فالأمر لا يعنيني، والأهم بالنسبة إليّ هو كيف وافقت الحكومة على إعطاء الجنوبيين هذا الحق من الأساس».
وأبدى جمال عدم تخوفه من اندلاع أعمال شغب في الشمال، لأن الجنوبيين في الشمال أضحوا «قلّة». إلا أن سلوى أعربت عن مخاوفها، من وقوع مشاكل أمنية في الشمال.
وسلوى أكدت لـ «الأخبار» أن الانفصال واقع لا محالة، مشيرةً إلى أن «نتيجة الاستفتاء بالنسبة إليها معروفه سلفاً كما كانت من قبل نتيجة الانتخابات معروفه بفوز المؤتمر الوطني»، لذا فضلت انتظار مرور عدة ساعات على انطلاق عملية الاستفتاء في مراكز الخرطوم قبل الخروج من منزلها. ودفع عدم اقتناع سلوى بالتطمينات الحكومية بأن الوضع الأمني سيكون على خير ما يرام، إلى عدم إرسال أطفالها إلى المدرسة أمس، وآثرت عدم التحرك من منزلها قبل إجرائها عدداً من الاتصالات لتطمئن من استتباب الأمن وعدم وجود فوضى في الشارع.
والخوف من اندلاع أعمال عنف، مشابهة لتلك التي صاحبت إعلان وفاة جون قرنق عام 2005، تسرّب إلى نفوس أصحاب شركات القطاع الخاص والمعاهد التعليمية الخاصة. ولجأت هذه المؤسسات إلى إعطاء موظفيها وطلابها «عطلة» طيلة أيام الاقتراع السبعة، تحت شعار «احترازات أمنية». إلا أن بعض المواطنين ألقوا باللائمة على وسائل الإعلام المحلية في تسبّبها بخلق هلع وسط المواطنين.
ورأت الطالبة الجامعية آمنة أن الوسائل الإعلامية أدت دوراً في تأجيج مشاعر الخوف، بعدما ركّزت في سياق تناولها الاستفتاء على مختلف الجوانب، ومن بينها القضايا العالقة، واحتمال انعكاساتها الأمنية. وفيما أبدت آمنة حرصها على شراء نسختها من الصحافة السياسية حتى تكون على بيّنة من كل ما يجري حولها من أحداث وتداعيات الاستفتاء، كانت الجولة على «ستات الشاي»، التي تنتشر في الخرطوم بكثرة، كافية لتظهر أن أهل السودان بمختلف مشاربهم، الذين اعتادوا مناقشة كل القضايا السياسية والحياتية أثناء جلسات شرب الشاي، قد قرّروا التخلي عن عاداتهم أمس، مفضّلين تمضية أوقاتهم بأحاديث خاصة.
وكتعبير عن اللامبالاة، واظب العاملون في المطعم الواقع بضاحية بحري، على تلبية طلبات القلة من الزبائن الذين توزّعوا على طاولات صالته الفسيحة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء مشاهدة قناة التلفزيون الرسمية، التي نشطت في تغطية شاملة لسير عمليات الاقتراع في مختلف المناطق الشمالية والجنوبية. وفضّل مرتادو المطعم وعاملوه الاستعاضة عن متابعة الاستفتاء بمشاهدة فضائية محلية أخرى كانت تبث أغاني عاطفية، اندمج معها الحاضرون، كأنه لا يوجد آخرون في ذات التوقيت يقررون عنهم، ما إذا كان وطنهم سيحتفظ بخريطته كاملة أم سيفقد أكثر من ثلث مساحته مع انفصال الجنوب.