أنسمّيه «بو عزيزي» المخيمات الفلسطينية في لبنان؟ لقد بدأ الاعتصام الذي لوى القبضة الأمنية على المخيم لكنه لم يكسرها بعد، أقول بدأ فقط للتو بتحقيق أهدافه. المخيم مختلف عن كل مرّة. حتى ناسه تغيّروا. المعنويات مرتفعة. ليس مختلفاً عن المرات السابقة فحسب، بل مختلف عن كل المخيمات: وجدته حين زرته هذه المرة وكأنه يقول «إيه في أمل».
كل الأحاديث هنا تدور حول الاعتصام. كيف بدأ؟ وماذا كان؟ وكيف نجح؟ وماذا خلق؟ سمعنا من الإعلام أن السبب المباشر للاعتصام بدأ بمشكلة حين أوقفت دورية للجيش شاباً على «دراجة نارية» داخل المخيم وهو لم يكن يحمل أوراقاً ثبوتية فحاول الفرار. «دراجة نارية» إذاً. أسأل الشباب الذين شاركوا في الاعتصام ونظّموه، كيف بدأت المشكلة... يضحكون ويخبرني أحدهم: «أجت المذيعة عم تسأل «نقّارة» (الشاب الذي تمّ توقيفه، ويدلّني عليه) شو صار معو؟ فقالت له: إنت وقّفوك لأنو معك دراجة نارية؟ فأجاب: بعرض أختي ما كان معي، كنت عم سوق موتسيكل». فسألته أنا: بتعرف شو يعني دراجة نارية؟ فأجاب نقّارة «شو عرّفني فكّرت درّاجة نارية يعني صاروخ!».
نحن في رمضان، وكأنه العيد. الفرح ظاهر على الوجوه، الشباب يمضون نصف ساعة لقطع مسافة قصيرة في المخيم، يتوقّفون كل دقيقتين لإلقاء التحية والمزاح والكلام على الاجتماعات والخطوات المقبلة. «أترين هذا الشاب ـــ يقول لي دليلي ـــ كنّا نظنّه من الزعران. عادي يعني، لا شغلة ولا عملة إلّا تلطيش بنات وقعدة عالقهاوي. والله ما توقّعنا يطلع منو هلقد وعي. الشباب تعرّفت على بعضها من جديد واكتشفنا فينا قوة ما كنّا شايفينها».
في الاعتصام، كان الأطفال، أطفال المخيمات التي تتضافر «جهود» كل الجهات لتدميرهم، يتنافسون على من يدفع أكثر لصندوق تبرعات الاعتصام. «فوجئنا، قال لي أحد الشباب، لم نكن نتوقّع أي شيء من هذا القبيل. عند أي مشكلة، نحن معتادون رؤية الأمهات ينزلن إلى الشارع لجرّ أبنائهن الى المنزل لحمايتهم. هذه أول مرة لم تنزل أي أم ولم يأت أي أب ليقول لابنه «انضب» من الشارع وعد الى المنزل».
منذ أولى ساعات الاعتصام، انتفض الناس على الفصائل ورفضوا مشاركتها ورفضوا تمثيلها لهم... وربما هذا هو السر في عدم تنازل الشارع عن مطالبه. في المقابل ينوّه الشباب بالتأثير الإيجابي لأربعة أو خمسة أشخاص من أساتذة وشعراء وكتّاب قوميين ويساريين هم الآباء الروحيون للحراك، كانوا معهم على الأرض دائماً ودعموهم ووفّروا لهم النصح والدعم. «حتى إننا رأينا شباباً أكثر وعياً وتأثيراً من مخضرمين معروفين على الساحة الفلسطينية».
من اللافت ما حكاه لنا منظّمو الاعتصام عن تدخّل قوى لبنانية في الاعتصام ومحاولاتها زجّ المخيّم في ما يسمّى المنطقة العازلة. ففي الساعات الأولى للاعتصام، وبينما كان التوتّر سيّد الموقف، والناس مجتمعين في الشارع، يتلقّى أحد المشايخ اتصالاً، فيبلغ المعتصمين أن «أهالي إحدى القرى المجاورة» متضامنون معهم وأنهم مستعدّون لقطع الطريق في أي لحظة، كرمى لعيون أهل البارد»! ويقول الرجل الخمسيني الذي كان من الناشطين في الاعتصام، «شو مفكرين حالهم بيضحكوا علينا؟ الشيخ بهاي الضيعة هو نفسو الشيخ اللي حلّل نسوان المخيم «سبايا» بوقت حرب البارد». ثم يكمل الرجل قصّته بأن أحد المشايخ عاد واتصل بهم قائلاً إن أهالي المنية جاهزون أيضاً لقطع الطريق و«ناطرين منكن إشارة». كذلك فإن أحد الشبان حاول رفع علم الجيش السوري المنشق في الاعتصام، فنجح كلام أهله في منعه من ذلك... «كانوا بدن يجرّوا المخيم لحدود وادي خالد». لا يمكن فهم هذه الأحداث إلاّ بقراءة أوسع لما يريده البعض من دور للمخيمات في لبنان. فإضافة إلى هذه المحاولات، وضع خالد ضاهر، بحسب أقوال المعتصمين، حاجزاً قريباً من حاجز الجيش خارج المخيم، في محاولة لجرّ الوضع إلى مواجهة أوسع بين الجيش والفلسطينيين، كي تنضمّ المخيمات الفلسطينية في الشمال إلى المنطقة السلفية العازلة.
بعد صلاة التراويح، حضرت أحد الاجتماعات التي قرّر الشباب تنظيمها بعد فض الاعتصام وذلك لاستكماله. «لقد فُضّ الاعتصام، يقولون، ولكن وضع المخيم ووضع الفلسطينيين في لبنان ما زالا على حالهما. أوقفوا التصاريح، لكنّ التفتيش ما زال سارياً والمماطلة في إعادة الإعمار والقوانين الظالمة ما زالت سارية. الاعتصام سيستكمل بنحو مختلف وسيكبر ليضم كل المخيمات وكل مشاكل اللاجئين الفلسطينيين». «اللي نجّح الاعتصام وحسّسنا بالقوة ـــ يقول أحد الشباب ـــ هو مؤازرة المخيمات الأخرى لنا... وخاصة مخيم عين الحلوة. لقد قلبوا الموازين وجعلونا الأقوى في المعادلة، لأنهم أثبتوا إنو فيه إمكانية ضغط ووجود قوة فلسطينية على الأرض».
لكن ليس الكل مع فكرة الاعتصام. فلدى انفضاض الاجتماع، حوالى الواحدة فجراً، تجمّع بعض الشباب خارج القاعة للحديث. يدخّنون بعصبية، بعد ابتعاد طويل عن السيجارة. ما المشكلة؟ يقولون إن حوالى 5 تجار من السوق عبّروا عن استيائهم من تأثير الاعتصام قائلين «معليش، نحنا منحب التصاريح وما بدنا اعتصام». حتى إن أحدهم قاد سيارته باتجاه الاعتصام إلى أن ارتطمت بالحواجز، ما أحدث أضراراً في الجزء الأمامي من السيارة، فراح يطالب شباب الاعتصام بالتعويض. «عادي ـــ يقول أحد الشباب ـــ نذهب ونكلمه بهدوء، سيرضى أنا عم قلك».
أحد إنجازات الاعتصام سيحدث ربما بينما تقرأون هذا المقال. فإحدى المشاكل العالقة مع الأونروا والجيش هي مشكلة «حي جنين»، وهو حيّ أعيد إعماره ولم يسمح لأهله بالعودة إليه: اتّفق الأهالي على أن يحتلّوا... بيوتهم.
لقد انكسر حاجز الخوف. هذا ما قاله لي الكثيرون، وما رأيته بنفسي. انكسر، وما ظهر مكانه هو أقوى وأجمل ما يكون.
نخرج من المخيم ونعود إلى بيروت والأمل يملأ قلوبنا بأن يمتدّ هذا النبض الى باقي المخيمات الفلسطينية. في بيروت، أقرأ دعوة إلى حفل موسيقي نهار الثلاثاء لـ«تجميع التبرعات» للمخيمات. «فاوندرايزينغ»( Fundraising ) يسمّونها بالإنكليزية. تذكّرت ما رأيته في البارد... وسألت نفسي، أليس هذا المنطق سبب وصول المخيمات إلى ما وصلت إليه؟ هل هذا ما تحتاج إليه المخيمات حقاً؟ أم ان تنتشر روح اعتصام مخيم البارد في كل مخيم، وانتفاضة صغيرة أخرى في كل المخيمات؟ كأوّل مرّة زرت فيها المخيم، أخرج منه بأبيات شعر للشاعرة فدوى طوقان، «إليهم خلف القضبان». لكنّها هذه المرة للأمل. «يا حامل القنديل \ الزيت وفرٌ، أطعم القنديل\ وارفعه للسارين\ رافعه مثل الشمس \ فالوعد لقيا في ربى «حطين»\ والوعد لقيا في جبال القدس».



للبراكسات مغنّيها (أبو جندل) وللباكيتج وان اي الرزمة الأولى (أول رزمة أعيد إعمارها) مغنّيها الخاص أيضاً. «فرحان»، مغنّي الراب المعروف باسم «تمرّد». يسكن بيتاً صغيراً أعيد إعماره، مع أبيه وإخوته. بيت هو أقلّ من نصف ما كانوا يملكون، يمكن الوصول إليه عبر درج ضيق لا نور فيه، فالجيش قد منع أن تكون للأدراج «مناور» أو شبابيك صغيرة. في المنزل، يتكلّم الشاب وهو لم يبلغ العشرين من عمره، عن مخيمه، عن إعادة الإعمار التي يعتبرها فاشلة بكل المقاييس. يتكلّم بوضوح وبساطة عن مشاكل هذا المخيم.