50 مليون ناخب مصري سيكونون اليوم في طريقهم إلى صناديق الاقتراع لتحديد هوية من سيخلف حسني مبارك على كرسي الرئاسة. طوابير ستقف أمام مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتها لمرشحها، وللمرة الأولى غير مدركة نسبة حظوظه بالفوز. للمرة الأولى يدرك كل مواطن مصري أن لصوته قيمة، وأنه قادر على إحداث الفرق في مثل هذه المنافسة الحامية، رغم المخاوف من التزوير وشبهات تدخل المجلس العسكري في الانتخابات وغيرها من الاحتمالات التي من الممكن أن تعكّر صفو العملية الانتخابية في أرض الكنانة.
لكن كل ذلك لا يمكن أن ينفي الحالة الاستثنائية التي تمثلها الانتخابات الرئاسية في أرض الكنانة، والتي يمكن وصفها بـ«الريادة المصرية». الريادة لا تأتي فقط من أن هذه الانتخابات هي الأولى الحقيقية التي يعرفها تاريخ مصر، بل ربما لكونها العملية الانتخابية الفريدة من نوعها في تاريخ العالم العربي بأسره، قبل وبعد الثورات وإطاحة الأنظمة السابقة.
فللمرة الأولى لا تزال هوية الرئيس المقبل مجهولة بالنسبة إلى عموم المصريين والعرب، وعليهم الانتظار أياماً إلى أن يتم فرز الأصوات وتظهر انعكاسات القوى في صندوق الاقتراع، قبل الانتقال إلى دورة إعادة انتخابية بين صاحبي المركزين الأول والثاني من بين 13 مرشحاً يتنافسون على الفوز بكرسي الرئاسية المصرية. عملية لا يسجل التاريخ العربي الحديث مثيلاً لها؛ فحتى في ظل الدول التي يُنتخب فيها رئيس للجمهورية دورياً، لبنان على سبيل المثل، تكون هوية الرئيس معروفة سلفاً بحكم «الصيغة التوافقية» التي تدير العملية السياسية في بلاد الأرز. لعل دورة الانتخابات الرئاسيّة اللبنانية في عام 1970 كانت الاستثناء الوحيد، حين فاز سليمان فرنجية بفارق صوت واحد عن إلياس سركيس، في تصويت غير مباشر تولاه النواب لاختيار رئيس جمهورية، وهي الصيغة التي لا تزال معتمدة إلى اليوم.
الدول التي سبقت ولحقت مصر في الثورة على نظامها السابق، لم تسجّل هذه الحالة الريادية في انتخاباتها الرئاسية (بانتظار انتخابات ليبيا). فاليمن، الذي شهد انتخابات رئاسية مباشرة بعد ثورته، لم يحد عن التقاليد العربية الرئاسية، فأجرى انتخابات بلا مرشحين، كانت بمثابة استفتاء على تولي عبد ربه منصور هادي لمنصب رئاسة الجمهورية خلفاً لعلي عبد الله صالح بناءً على «المبادرة الخليجية» التي أخمدت الثورة في اليمن، وبالتالي لم يتسنّ لليمنيين اختبار القوى الأساسية على الأرض، أو تطبيق بعض جرعات الديموقراطية التي ثاروا من أجلها.
كذلك، بعد الانتخابات التشريعية التونسية، اتُّفق بين ما اصطُلح على تسميته «ترويكا الحكم» على توزيع مناصب الحكم الثلاثة بين الأطراف، فكان معروفاً أن المنصف المرزوقي سيتولى رئاسة الجمهورية، بينما ستكون رئاسة الحكومة لحمادي الجبالي، ورئاسة البرلمان لمصطفى بن جعفر. لم يفكّر التونسيون كثيراً ولم يحبسوا الأنفاس بانتظار معرفة هوية قياداتهم الجديدة، باعتبار أن توزيع المناصب جاء انعكاساً للانتخابات التشريعية التي سمحت للأطراف الثلاثة بالسيطرة على مقاليد البلاد.
هنا ربما أتت ريادة مصريّة ثانية؛ فالانتخابات الرئاسيّة، التي تجري بالاقتراع المباشر من الشعب للمرشّح، منفصلة كلياً عن نظيرتها التشريعية التي مكّنت حزب الإخوان المسلمين، «الحرية والعدالة»، من السيطرة على البرلمان، وبالتأكيد لن تعكس الصورة التي أحدثتها الانتخابات البرلمانية. ولعل تلهّف الإخوان وراء الأصوات والخوف الشديد من عدم وصول مرشحهم محمد مرسي إلى جولة الإعادة (الدورة الثانية) خير دليل على ذلك. الواقع هذا ناتج من اعتبارات عدة، منها ما له علاقة بشخصية المرشح الإخواني ووجود مرشحين إسلاميين منافسين أقوياء. لكن الأبرز هو التعديل في المزاج الاجتماعي الذي ضمن السيطرة الإخوانية في السابق.
لكن رغم ذلك، لم تخل الحملة الانتخابية من شوائب أسهمت في إضفاء مزيد من الغموض على شخصية الرئيس المقبل، ولعل في مقدمتها استطلاعات الرأي، التي من الواضح أنه ليس للمصريين خبرة فيها بناءً على طول الإقامة في مربع الرئيس الواحد الأحد. الاستطلاعات خلال الحملات الانتخابية، قبيل الدخول في مرحلة الصمت، كانت «فضيحة» وغلبت عليها طبيعة التوجيه السياسي، بحيث لا يشبه أي استطلاع آخر إلا في تحديد ما يمكن تسميتهم «المرشحين الخمسة الكبار»، وهم: عبد المنعم أبو الفتوح، عمرو موسى، أحمد شفيق، محمد مرسي، وحمدين صباحي. بين هذه الأسماء الخمسة تدور فعلياً رحى الانتخابات الرئاسية المصرية، لتتوزع على جبهات ثلاث: ليبرالية وإسلامية وما يطلق عليه اسم «الفلول»، في إشارة إلى من كان مقرّباً من النظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. اثنان من هذه الأسماء الخمسة سيكون عليهما خوض جولة الإعادة لتحديد هوية الرئيس، إلا أن أياً من الاستطلاعات المصرية لم تشر إلى هاتين الشخصيتين، وجاءت نسبها المعلنة غير منطقية في الإشارة إلى الفوارق بين مرشح وآخر. في المقابل، كان هناك استطلاع لم ينشر، اطلعت «الأخبار» على محتواه، يشدد على المرشحين الخمسة، مع التأكيد أن الفوارق بين الأول والخامس لا تتعدى النقاط الخمس، ما يعني أن النتائج ستكون مفتوحة على الكثير من المفاجآت التي تؤكد حقيقة «الرئيس المجهول».
بناءً عليه، ستكون مصر رائدة في هذا المجال. ولعل المشهد الحالي يختصر أهمية ثورة «25 يناير»، رغم كل ما مرت به من منعطفات أسهمت، ولو قليلاً، في حرفها عن مسارها، سواء في ما يتعلق بالفوز الإسلامي وتحكمه في المعطى التشريعي والشارعي، أو هيمنة الطبقة العسكرية على القرارات المفصلية في البلاد وانتهاك حقوق المتظاهرين. الكثير من المصريين اليوم يأملون أن تكون الانتخابات الرئاسية اليوم صفحة جديدة في كتاب الثورة، تنطلق معه البلاد على طريق استعادة الريادة داخلياً وعربياً ودولياً، من دون أن يخفوا مخاوفهم من إمكان سرقة «فرحهم»، سواء بضغوط من الداخل أو الخارج، وهو ما قد يتظهّر مع النتائج الأوليّة للانتخابات.